استذكاراً لسيدِ ولد الشيخ عبد الله (1938-2020)

اثنين, 11/23/2020 - 14:40
الدكتور : أبو العباس أبرهام

الإعلام نت - في 2007 لم أدعَم سيدِ ولد الشيخ عبد اللهِ. تخرّجت للتو من المغرِب وكان محيطي وجزءٌ كبيرٌ من أصدِقائي العاقِلين يدعمه لأسبابٍ متبايِنة ليس أقلّها أنّ الأخيرين اعتقَدوا أنه حديث عهد بخبرة وأنّ البلد يحتاج تكنوقراطيّة، لا استقطابات حزبيّة. وستكون التكنوقراطية هي صيحة الحرب في تلك الفترة. من جهتي كنتُ أنتمي فكرياً، لا حِزبياً، لتراث المعارضة. ولكن الموقِف كان صعباً، حتّى على حليفي المصطَفى ولد بدر الدِّين، أحد خيرة الاستراتيجيين في البلد. في المناظَرة في مارس 2007 تجاوزَ سيدِ الإشاعة وظهَر حازِماً. ولكن حتّى مع تسليمي أنّه كسَب المناظَرة فإنّني حلّلت بنوعية الفريق السياسي والكتلة التاريخيّة، لا الحزم المنطِقي فحسب، ولم أصوّت له، ولكن بدا من الواضِح أّنّنا أمام رئيس أديب ومحترَم، وهي أشياء سيتبيّن لاحِقاً، بعد افتقاد البدر، أنّها مفيدة. 

 

بعد التنصيب، أخذتُ صفِّي في المعارَضة ككاتِب في "القلم" ثمّ بُعيد ذلك في "تقدّمي"ن الذي ظهَر كمارِد إعلامي في أواخِر ربيع 2007. الطّريف أنّنا نحن الذين عارضنا ولد الشيخ عبد الله سرعان ما انقلبنا إلى أبرز المنافِحين عن حقِّه الشرعي بعد انقلابٍ غادِر تعرّض له في السادس من أغسطس 2008. بل وإنّ صحافة البلاط انقلَبت شتماً فيه، صحافة لم أحترِمها يوماً. ولن أنسى أحدَ هؤلاء كان له موقِع مينوتورياً أصبَح فجأة أرقَط: نصفه السفلي، حيث المواد القديمة، يلهج بالدفاع عن سيدِ؛ بينما نصفه الجديد، حيث المستجَدّات، يأكُل في لحمه! وفي تلك الفترة شاءت الإرادة السياسيّة لجنرال غير خلوق أنّ يُؤكَل أيضاً عرْض الرئيس المُطاح به.

 

بعد إطلاق سراح سيدِ غادَر إلى قريتِه،  لِمْدِنْ، في ربيع 2008. وقد اتبعتُه بغرض مقابلة صحفيّة معه لصالِح "تقدّمي". كنت إذذاك مهووساً ببعض التقاليد الأنثروبولوجيّة فلبثت أسبوعاً في المدينة لمعرفة الأجواء النفسيّة ومحادثة الجميع، بمن فيهم العُمال وغير المتسيِّسين. كانت مدينة محاصَرة حينها ولكنّها خلية نحل من الوفود الدولية والمحليّة. بعض هؤلاء كان يحاوِل الضغط عليه للتنازُل عن شرعيته، كما سيفعل في تلك الفترة كلٌّ من ساركوزي والقذّافي، اللذّين كان بينهما بيزنسٌ مشبوه. تبيّن لاحِقاً، كما أخبرني سيدِ، أنّ ساركوزي كذَب بزعمِه أنّه استصدَر منه تنازُلاً وأنّه لم يُكلِّمه أصلاً. كذِبة تليق بساركوزي. قُمت بالمقابلة بعد مرابطة في محيط الرئيس ولقائه مراراً. كان أبناؤه، وبالأخصِّ بنته، في غاية المهنيّة. أمّا زوجتُه التي أُثِّمت كثيراً في الإعلام فقد كانت في غاية الدّماثة واللطافة وفهم سمو اللحظة.

 

تنازَل سيدِ أساساً بسبب ضغط المعارضة، التي ظنّت أنّها ستدفن الانقلابيين، رغم عدم موافقتِهم على فتح الحالة المدنيّة للتسجيل الانتخابي لأكثَر من أسبوع. تبيّن أنّ ذلك كان تفاؤلاً. كانت خطّتُه الأصليّة خطّة تحكيمية تقضي بخلعِ الفريقيْن، ولكن المعارضة، كأبو موسى الأشعري، خلَعت صاحِبَها وأثبَتت خصمها، لأنّها لم تشتغِل على ضمانات اقتراعيّة. وبالتالي فستعاني لعقد من حُكم نادِر شاه، حُكم شخصٍ انتقامي، غير متعلِّم، ويحكُم بالنزوة، لا بالمؤسّسات، ويستخِفُّ بالوحدة الوطنيّة. 

 

بعد تنازُل سيدِ وخروجِه من هالة الضوء دعانا، أنا وحنفي ولد دهاه، إلى بيتِه بنواكشوط، حيثُ شكَرنا على دعمِنا له. كان حنفي قد خرَج للتو من سجن دام تسعة أشهُر، لا لشيء إلاّ أنّه عارَض الجنرال عزيز. قضينا معه جلسة طويلة من العصر حتّى العشاء، وقد أثبَتَ لنا فيها ما حلّلنا به سابِقاً، وهو أنّ الانقلابيين هم من بدأ قلقة الأوضاع حتّى قبل أزمة حجب الثقة في مارس 2008، وهم من أطلَق الإرهابيين أثناء زيارة أمير قطر ومن أجل بلبلة الأوضاع الأمنية (تماماً كما في فيلم "الهروب" لأحمد زكي في 1991). 

 

عندما تنازَل سيدِ عن الحُكم وأعلن غفرانَه فإنّه التزَم بذلك. وكانت المرّة العلَنيّة الوحيدة التي تكلّم فيها كانت في البيت، لا في الإبِل. كانت رفضه للتعديلات الدستورية الهوجاء، التي ألغت مجلس الشيوخ، السلطة الوحيدة التي تستعصي على رئيس الجمهورية في النظام الدستوري وألغت الرموز التاريخيّة للبلد.

 

 أمّا في ما يخصّ الفقير فإنّ آخر مرّة كانت عندما اتصَل سيدِ ولد الشيخ عبد الله استحساناً لمقالي عن "كيهدي"، مقالٌ رافِضٌ للشوفينيّة البيظانية والزنجية واستذكاراً للوحدة السياسيّة بين الفريقين في تاريخ البلاد. وقد أراد ولد الشيخ عبد الله أن يُترجَم المقال إلى الفرنسية، وقد ترجمَه بالفِعل محمد باب ولد سعيد، أحد خيرة المناضِلين بهذا البلد.

 

رحمَ الله سيدِ ولد الشيخ عبد الله وأدخلَه فسيح جنانِه.

 

من صفحة الدكتور أبو العباس أبرهام.