"لا تريد ولاته أن ترى أحداً.. فمئات الكيلومترات تفصلها عن الآخرين.. إنها تحب أن تكون بمفردها..

أربعاء, 12/13/2023 - 07:14

تزهو ولاتة بصورتها -وهي المعجبة بنفسها- في مرآتها الرملية السحرية.. تتفرج على نفسها في تلوينات الرسوم والنمنمات الجميلة على جدران وأبواب منازلها وحاراتها العبقة برائحة التاريخ  والبهارات "اشروط".. وهي ترى نفسها في زخارف كتبها ومخطوطاتها القديمة والنادرة.
 ثم أن ولاته ليست في الحقيقة من طينة مدننا الأخرى، فهي قد استلهمت الكثير من ثقافة وقيم جميع من هم في محيطها، لدرجة أنها لم تعد هي نفسها تعرف من هي.. 
لطالما كانت ولاته  مدينة عالمة ومغناج للغاية.. وقد ظلت كذلك دوما خاصة بالنسبة لنا - نحن الآخرين، أجلاف البدو الرحل..
إنها ولاته التي احتضنت جمال إمبراطورية مالي عندما كانت في أوج عظمتها، و أخذت كل شيء من قيم المرابطين عندما كان لديهم إيمان عميق، وخدعت المغاربة ، وعرب معقل، وغزاة الفوُلّان المتعصبين، وقبائل أولاد أمبارك ومشظوف، حيث اعتقدوا جميعًا - في وقت من الأوقات- بأن كل واحد منهم قد ظفر بقلب هذه المدينة الأسطورة.. لكن الأمر لم يكن كذلك.. لقد راوغتهم جميعًا، و انتزعت منهم النزر القليل لكنه الشيء الجوهري.. ثم عادت ولاته إلى ما كانت عليه دائمًا.. ولاتة المدينة ذات الدلال والغنج، التي تتعالى دوما على كل ما سواها".
تذكرت هذه المقاطع الأدبية الجميلة من رواية "صمت الآفاق" Le Silence des Horizons لصديقي امبارك ولد بيروك  "شَيْخُ" علما ، بينما كنا نعبر مفازات الصحراء المتدثرة في دياحي ليل بهيم، متجهين في مهمة ضمن طواقم المكتب الإعلامي لرئاسة الجمهورية،  نحو ولاتة زهرة مدائن التراث الموريتاني..
كنت أتأمل الطريقة الجميلة والمعبرة والعميقة التي صاغ بها بيروك أدبا رفيعا في وصف هذه المدينة التي أعجبته كثيرا، فرسم  لها لوحة فنية رائعة بحروف فرنسية، تخلد معالمها ومآثرها التاريخية..
يتقن بيروك- بمهاراته البلاغية المدهشة- فن التعبير بالمقلوب أو "المگفي" كما يقال في مجال لغن.
اليوم، ما تريده ولاته بحق، هو أن يراها الجميع.. 
وهو ما أراده لها فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، في خطابه اليوم لدى افتتاح الطبعة ال 12 من مهرجان مدائن التراث..
لقد أراد لها فخامته أن يراها الجميع في ثوبها القشيب، على ما هي عليه من بهاء وجمال وتميز، وهي تزدان بتنفيذ حزمة من المشاريع التنموية الحيوية لصالح المدينة الصبورة وأهاليها الأكارم.
ولاته التي غزت في الماضي قلوب كل الغزاة، تشد إليها اليوم الرحال من جميع أصقاع الوطن، وترنو إليها العيون وتهفو إليها الأفئدة سابحة في معين عشقها الجواني، ومستمتعة بعذوبة تراتيلها وأمداحها الشجية..
ولاته اليوم مدينة تتعطر بالمسك والعلم، وتكتحل بمداد التاريخ، متربعة بزهو على عرش مدائن التراث.. في ولاته، ينصت الجميع في خشوع إلى سمفونية "صمت آفاقها" المهيب، على إيقاع ألحان المجد والتاريخ والرمال والرياح..

محمد السالك ابراهيم