لو كنتُ الحكومة الإسرائيلية لرفضتُ أي صفقة تلزمني بوقف الحرب والانسحاب من غزة، لأن قبولي بالأمر يدل على هزيمتي، ويؤشر على ضعف بنيوي يمخر جسمي، بينما أنا أحاول اخفاءه عن الجميع: عن نفسي، عن أعدائي وعن أصدقائي.
ولو كنتُ حماس لترددتُ كثيرا قبل أن أوافق على وقف إطلاق النار، ولتريّثتُ حول بقائي في غزة كسلطة تحكمها. لأنه لم يبق فيها شيء يمكنني تسييره. فماذا سأقول للسكان المنكوبين بعدما تضع الحرب اوزارها ولا يتوفر لدي ما اقدمه لهم، بينما دوري القتالي الذي اعجبهم وتحمسوا لي ونصروني بسببه توقف ولم يعدْ له مبرر ولا معنى في ظل اتفاق الهدنة الدائمة الذي وقعتُ عليها.
ولو كنتُ دولة معادية للولايات المتحدة في المنطقة- مثل إيران- لتحالفتُ مع فصائل المقاومة الفلسطينية، ولدعمتها وشجعتها على مواصلة الحرب ضد "عدونا المشترك" عملا بالقاعدة: عدو العدو صديق. وقصدي من وراء ذلك: دفع الفلسطينيين إلى أن يتحملوا عني قسطا معتبرا من اعباء الحرب ضد عدوي.
ولو كنتُ الولايات المتحدة لماطلتُ كثيرا ولتحلّيْتُ بضبابية تُغطي على استراتيجيتي الحقيقية. لإن مصلحتي الجيوستراتيجية تكمن في عرض عضلاتي دون أن أبوح بنواياي. وظروف الحرب تعطيني الفرصة لنشر قوتي الاستراتيجية، البحرية والجوية في المنطقة؛ كما تسمح لي بإظهار اسلحتي الفتاكة عبر دعمي السخي لإسرائيل بشكل يمكنني من جعلها دائما أداة ضغط ونفوذ فعالة بيدي أخوف بها دول الشرق الأوسط.
ولو كنتُ الانظمة العربية والاسلامية، لتكيفتُ مع الوضع كما شاء له أطراف الصراع الرئيسيين، ولواصلتُ تكرار مواقفي وسردياتي بصورة لا تقدم كثيرا ولا تؤخر فيما يعني القضية الفلسطينية، لكنها تؤمن بقائي وتقيني شرور مخاطر وتهديدات لستُ متأكدا من قدرتي على مواجهتها.
وأيًا كان انتمائي أو عدمه، لهذا الطرف أو ذاك، فإنني اعلم أنه رغم أن لا أحد يريد حقا وقف الحرب، فلا أحد أيضا يعارضه صراحة. بل على العكس: الجميع لا يبدون غير "التشبث بالسلام والدعوة إلى حل الأزمة بالطرق السلمية"، تاركين الباب مفتوحا لإقامة هدن ناقصة وقصيرة الأجل. فأطراف الصراع فور ما يفكر أحدهم في اتفاق لوقف القتال يبدأ في اعداد وتبرير اختراقه، ليدعي أن الخصم هو المسؤول. وهكذا فإن المسار مرسوم مسبقا: الحرب والأزمات المسلحة ستبقى السمات البارزة لما يجري في فلسطين طالما أن الهيدروكاربونات وقوة نفوذ الولايات المتحدة هما المغذيان الرئيسيان للصراعات الجيوسياسية في المنطقة.
كما لدي شعور بأن حرب غزة اظهرت علامات لم تتضح بعد ملامحها بصورة جلية تماما. تشي هذه البوادر بان سيطرة العم "سام" وعظمته ربما في طريقهما إلى التقهقر لتحتل قوى أخرى الصدارة في العلاقات الدولية: روسيا التي تستعيد قوة نفوذها رغم- أو كما تشهد على ذلك- كلفة حربها مع أوكرانيا، الصين الشعبية، الدول الصاعدة مثل: الهند، تركيا، إيران، جنوب افريقيا...إلخ... لكن لا مؤشر على أن التغيرات الجيوسياسية الموعودة في موازين النفوذ العالمية كفيلة بضمان الأمن والسلام في منطقة الشرق الأوسط ولا في غيرها من العالم، علما-من جهة أخرى- أن التغير المناخي وتدهور الوسط البيئي لهما آثار على الأمن والاستقرار لا تدعو إلى الطمأنينة. وحول هذه النقطة الأخيرة نشير إلى أن الحروب تشكل بيئة خطيرة لمضاعفة الانبعاثات الحرارية. وحرب غزة، التي بين أيدينا، تسببت في حجم هائل من الانبعاثات خلال الشهرين الأولين فقط من مسارها يفوق البصمة الكربونية السنوية لأكثر من 20 دولة من أكثر دول العالم اصدارا للغازات الدفيئة.
ومن المعلوم أن تلك الغازات الدفيئة (gaz à effet de serre) الناتجة عن الحرب لا تقتصر انبعاثاتها على أرض غزة، بل تؤثر سلبا على المناخ على الكرة الأرضية في مجملها، ومن ثَم على الأمن والاستقرار العالميين. ورغم هذه المخاطر البيئية الكونية، فلا أحد من أطراف الصراع يكترث كثيرا بهذا الجانب من مخلفات الحرب كمحفز على توقيفها. هذا بالإضافة إلى حساباتهم الإستراتيجية والتكتيكية التي سبق ذكرها والقائمة حتى الآن على مواصلة الحرب.
عقيد (متقاعد) البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي)