رحلات مونغو بارك في غرب افريقيا استطلاع في عمق منطقة الساحل… بقلم سيد محمد بن عبد الوهاب

جمعة, 08/26/2022 - 21:35

قام الرحالة الإسكتلندي مونغو بارك برحلتين في أعماق غرب افريقيا كمبعوث من الجمعية الجغرافية في لندن ، (بعد وفاة مبعوثها الأول ميجر هيوغتون 1791 م في محاولته الوصول إلي تومبوكتو عبر تيشيت ) ، و تشجيع من وزارة المستعمرات الابريطانية في مهمة لتتبع مسير نهر النيجر و تحديد موقع المدينة الأسطورية تومبكتو مع التعرف علي شعوب المنطقة و مواردها الاقتصادية تمهيدًا للمخططات التوسعية لاببرطانيا بإضافة بيانات أدق علي الخريطة الطبيعية و البشرية .

 

الإطار العام لمناخ الاكتشافات الجديدة :

 

واكبت هذه الفترة سيطرة ابريطانيا علي منافذ السنغال ( جزيرة كًوري و سينلوي ) قبل استرداد فرنسا لهما بعد اتفاقيات باريس 30 مايو 1814م و تواصل التوسع الأوربي في اتجاه أعماق القارة السمراء الواعدة بالثروات الثمينة وآفاق التبادل التجاري و البشري.

 

نهاية القرن الثامن عشر ميلادي (القرن الحادي عشر هجري) كانت فترة نموذجية للمجتمعات التقليدية قبل الاستعمار ، عدة قرون بعد تفكك الامبراطوريات الكبيرة في غرب افريقيا ( غانا و المرابطون و مالي و جولوف و سونغاي) و ظهور ممالك و إيمارات و مشيخات متشرذمة داخل هذه الأقاليم المحافظة علي نمط إجتماعي تقليدي في أجواء فتح التبادل التجاري عبر الأطلسي و نمو أطماع القوي الأوربية ذات الأساطيل البحرية.

 

و من بين المؤرخين و الرحالة العرب الذين زارو هذه المناطق أو كتبوا عن ثقافاتها و جغرافيتها : ابن حوقل (محمد ابن القاسم البغدادي) بعد اسفاره في افريقيا و آسيا (كتاب صورة الأرض سنة ٣٤٤ ، 977م) و أبو عبيد البكري القرطبي ( الذي جمع معلومات هامة من التجار العرب و المسافرين عن مملكة غانا و عاصمتها اودغست و عن مدينة ولاته ( حوالي ٤٣٢ هجري، 1068 م ) و ابن بطوطة الذي زار المنطقة حوالي٧٠٦هجري، 1350 م عابرًا صحراء الملثمين و دون ذلك في "رحلاته " و حسن محمد الوزان الغرناطي ( ليون الإفريقي الذي زار تومبوكتو مرتين قبل أسره و حمله الي ايطاليا) و ألف عن افريقيا و عاداتها في كتاب شهير ( حوالي 1550 م ، ٩٠٠ هجري) و ابن خلدون (المسالك و الممالك) و الإدريسي في خرائطه عن العالم و شهاب الدين العمري ( في مسالك الأبصار و ممالك الأمصار ) الذي زار مصر بعد مرور امبراطور مالي مانسا موسي في رحلة حجه الشهيرة (سنة 1324 م - ٦٨١ هج ) وجمع الكثير من اخبار تلك البلاد الغنية آنذاك و طموح ملوكها العابر للقارات.

و نظرًا لطغيان الثقافة الشفهية علي الكثير من المجتمعات الافريقية ضاع الكثير من حيثيات الأحداث الجسام التي مرت بها هذه الشعوب و اكتست الشهادات القليلة قيمة إضافية في بحر المجهول الوثائقي و الغموض الثقافي.

و في مجال الخرائط كانت أطلسيات الجغرافية الافريقية تحمل الكثير من فضاءات الفراغ بعد خرائط ابن حوقل (977 م ) و الادريسي عن العالم (Tabula Rogeriana) في كتابه نزهة المشتاق سنة 1154 م ) و كتابات البرتغاليين ( مثل زورارا ) و خرائطهم منذ هبوطهم في حوض اركًين سنة 1434 و سواحل غامبيا و غينيا بعد ذلك بقليل.

و في هذا السياق الاستكشافي ، العابر للحدود المألوفة ، ينبغي الإشارة إلي حملتين "معاكستين " نادرًا ما لقيا اهتمامًا رغم بعدهما الحضاري و الرمزي : الأولي للأمير المرابطي علي ابن يوسف ابن تاشفين اللمتوني بقيادة أحمد ابن عمار انطلاقًا من لشبونة ( عاصمة البرتغال حاليًا) لفتح الجزر البعيدة في أعماق المحيط و الثانية ، قرونا بعد ذلك، لإمبراطور مالي مانسا أبوبكر الثاني ( أخو مانسا موسي الشهير بحجه "الذهبي" إلي مكة المكرمة) المنطلقة من سواحل السنغال و التي قادها بنفسه , بعد رجوع سفينة واحدة من حملته الأولي بأسطول ضم الاف الزوارق حاملة الجنود و المؤن و الات البناء و الذهب و الأسلحة في أول محاولة جادة لعبور الأطلسي مائتي سنة قبل كولومبوس (سنة 1311 م، ٧٠٧ هجري) و يختلف المؤرخون علي وصول بعضها لشواطيء آمريكا نظرًا لحديث الهنود الحمر لرفاق كولومبوس عن قوارب تحمل أناسًا بشرتهم سوداء و وجود رماح تحمل رؤوسًا ذهبية تشبه رماح منطقة غينيا.

الإشارة إلي هذه الحملات البحرية الطموحة تتنزل في إطار الاعتراف الموضوعي بدور الجميع في صناعة التاريخ و رفض أحادية السبق و احتكار الريادة السائدة في النظرة الأوربية المهيمنة علي عرض تاريخ المنطقة و العالم و مركزيتها.

و لعل هذا البعد المغيب يضفي بظلاله علي جوانب من توتر العلاقات بين بعض الدول هذه الأيام.

كما ان واقع الخريطة السياسية آنذاك كما سنري ، ينفي بعض الإدعاءات المترددة لتبعية سكان موريتانيا الحالية للمملكة المغربية (تعقيبًا علي تصريحات السيد أحمد الريسوني ، رئيس هيأة علماء المسلمين أخيرًا ) رغم الود و التجارة و القربي و الأخوة الدينية التي جسدتها ملحمة المرابطين وعلاقات الجوار و التكامل (فقرة أضفناها لمواكبة أصداء هذه التصريحات التوسعية).

 

يأتي الاستطلاع " الموجه" للطبيب الابريطاني بارك في خضم سبر أغوار الفضاء الإفريقي المشحن بأخبار القوافل و الملح و الذهب و العاج و الرقيق و الصحاري الموحشة و الغابات الكثيفة و الأنهار المتشابكة و تماوج الشعوب علي أثير صراع الأمراء و مزاج الملوك أمام جاذبية مصادر الثروات ؛ حاملًا معطيات قد ينير بعضها تعقيد مشاكل منطقة الساحل أيامنا أو يلقي ضوءًا على الأرضية المتحركة بشريًا و بيئيًا قبل تقسيم افريقيا بعد مؤتمر برلين 1884 م و رسم خرائط الحدود "الوطنية" بعد ذلك.

 

و رغم التحفظ علي بعض استنتاجات الطبيب الرحالة ، الذي مضي فترة مداوما في جزيرة سوماترا يعالج المرضي و يدرس الأشجار و الأسماك الأسوية ، و ذاتية بعض مشاعره السلبية إتجاه بعض المجموعات البشرية ( مثل البظان moors و الفلان Foulahs ) نظرًا لأسباب شخصية , تعد شهادته كنزًا من الملاحظات المباشرة في أعماق يوميات الشعوب التي مر بمراتعها أكثر من قرن و نصف قبل الإعلام المرئي و المسموع و المباشر .

كما أنها تطرح تساؤلات كبيرة حول المسؤوليات الأخلاقية و التاريخية لتجارة الرقيق و أثرها علي سير نمو إفريقيا و تركيع كرامة الإنسان و ذاكرات الشعوب.

 

مونغو بارك في مغامرة استكشافية لشعوب حوض النيجر:

 

كانت الرحلة الأولي من ميناء بورتسموث Portsmouth 22 مايو 1795 , عبر السفينة ايندوفر Endeavour , إلي سواحل نهر غامبيا حيث واصل الرحالة إلي محطة بيزانيا Pisania ليمضي قرابة ستة أشهر ، في تحضير جولته و تعلم لغة الماندينغ المتداولة في المنطقة ، مع الدكتور جون ليدلي Dr.Laidly (تاجر بريطاني و وسيط معتمد في التبادلات بين تجار الرقيق و السفن الأوروبية) ، الذي زوده بمستلزمات الرحلة بطلب من الجمعية اللندنية : حمارين لنقل رفاقه الأفارقة ( دمبا و المترجم جونسون) ، حصان أبيض لنفسه ، مسدسين صغيرين, بندقية ، آلة سدس لقياس الارتفاع ، مظلة، بوصلتان من حجم صغير، ساعة يد ، ثياب أوربية و بعض البضائع ( تبغ ، دقيق ذهب ، حبات عنبر و مرجان ، قطع قماش و مقطعات حديدية، بارود….) و توصيات ببعض الديون المستحقة علي بعض تجار الرقيق في الممالك التي قد يمر بها . كما أخذ معه كتاب المستشرق جون ريتشاردسون عن قواعد اللغة العربية ( المنشور سنة 1778 ) مع مذكرات الإرلندي دانيال هيوغتون الذي سبقه بقليل في الطريق إلي تومبوكتو و لقي حتفه بين جارا و تشيت سنة 1791 م.

وثق بارك هذه الرحلة المكوكية ( من بيزانيا ، ساحل غامبيا غربًا ، إلي مدينة سيلا Silla علي نهر النيجر شرق سيكًو ) في كتابه الذائع الصيت “ Travels into the interior of Africa” ( الصادر سنة 1799 و نستند إلي طبعته سنة 2020 , صWorldworth edition, 406) المنشور بعد عودته إلي أوربا بعد ان ظنه أصدقاءه قد مات في أدغال القارة السمراء سنتين و نيف منذ غيابه راجعًا في سفينة أمريكية “ Charlestown" متجهة إلي إقليم كارلونيا الشمالية بحمولة 132 من الرقيق ، بعضهم يكتبون و يقرأون العربية ، لتعثر وجود سفينة مباشرة إلي أوربا ، صار ممرضا لركابها بعد موت طبيبهم ، متبادلًا معهم الحديث و موثقًا معانات هؤلاء المقهورين في المحيط و تفاصيل سلبهم و بيعهم في سفر لا عودة، قبل وصوله إلي ابريطانيا قادما من جزو الكاريبي Antigua نهاية ديسمبر 1797.

 

أعطي هذا الكتاب صورة بانورامية عن شعوب المنطقة و عاداتها و أمرائها و ملوكها و تركيبتها الاجتماعية ( الطبقية) و أزماتها ( صراعات داخلية و تغيرات مناخية) و أسلحتها (النبال و الرماح و البنادق التقليدية ) و مقوماتها الاقتصادية ( زراعة الذرة و القطن ،تنمية البقر و الغنم ، صناعة الحديد و الذهب…) و لغاتها الشعبية ( الماندينغ، السنوكية ، الولفية ، البولارية ، البامبارا، الحسانية، الهاوسا، البربرية …) مع وجود اللغة العربية كلغة معتمدة في الشرع و المراسلات و الوصايا و المعاملات و التدريس في الكتاتيب المنتشرة في القري و الأرياف.

جسدت تفاصيل شهادة هذا الزائر الغريب عمق التعايش السلمي بين معتنقي الإسلام و بقايا الوثنية ، في المعتقد و التطبيق، و بين الأعراق عربًا و بربرا و أفارقة سود و تحفظهم من الغرباء " النصاري البيض" رغم تغلب البعد الإنساني ( الشفقة و الضيافة و الرأفة بغريب الأوطان…) في وسط مازالت كرامة الإنسان تعاني من أقسي الانتهاكات.

 

حملت عدسة هذا المستكشف، والتي كادت تسقط في بانعوم ، (نظرًا لتشابه زرقة عينيه مع مقلتي قط حسب ما حكاه له أحد ابناء أمير أولاد امبارك )، صورًا مكتوبة نادرة لحرائق العشب اليابس ليلًا في قري الماندينغ و جمال القري الوديعة في ممالك البامبارا و قطعان بقر الفلان في إقليم ماسينا و أسراب السكان الهاربين بأمتعتهم و مواشيهم في كارتا من حروب الممالك المجاورة و خيول أولاد امبارك رفقة أميرهم و قري الصيادين علي ضفاف أنهار الفالامي و النيجر و غامبيا و السنغال، و أفران الحديد و أسراب الجراد المسافر و جلسات غزل النساء للقطن و صيد الفيلة من أجل العاج و حفلات الزواج و الختان الجماعي للأطفال و الملاكمة و استقبال هلال رمضان بالدعاء و الولائم و حفلة وصول القافلة و مآتم النحيب…مع بعض الحالات الإنسانية القصوي يطول الحديث عنها.

 

وثق الجراح المغامر أيضًا ، كشاهد علي العصر، تجارة الرقيق المنتشرة داخليًا بين الممالك الافريقية و خارجيًا مع الاوربييين علي سواحل الأطلسي ( قدر قرابة ثلاث أرباع السكان أنهم أرقاء حالييين أو سابقين) من خلال القوافل الدائمة و استخدام الحروب و السطو كطريقة انتزاع البشر لغرض البيع أو التبادل( بالذهب و الملح و العنبر و التبغ و الحديد و البارود ) بما في ذلك قري بكاملها يتم سوقها قهرًا و تبقي خاوية علي عروشها.

و أشار في هذا السياق إلي أسباب اخرى مثل عدم القدرة علي سد الديون المستحقة أو ضغط المجاعات الموسمية أو ارتكاب بعض الجرائم قد تؤدي إلي فقدان الحرية بصفة دائمة أو موقتة و ضرب الأغلال في رقاب و أيدي ضحايا ذلك الزمن الظلامي.

و تعتبر القيمة الاجتماعية لتجار البشر ( ممتهني النخاسة Slatees) دليل علي عمق ثقافة الاستعباد في المجتمعات الأفريقية آنذاك.

من بين ملاحظاته أيضًا وجود أفران لصناعة الحديد و أماكن للتنقيب الأهلي عن الذهب و طرق استخراجه التي تشابه عمليات تصفيته التقليدية أيامنا في الشمال الموريتاني و طريقة صنع البارود المحلي للبنادق التقليدية من حبوب النتريت الممزوجة بدقيق بعض النباتات و كذلك تصفية زبدة الشيا Shea butter من شجرتها المنتشرة في الأرياف.

ساعدت بارك أيضا ، كعالم طبيعي، خبرته في الأعشاب و الكائنات البرية و المائية لينحت صورًا دقيقة عن أشجار غرب افريقيا ( المانكًروف و التيدوم و الطلح…) و يستعين بها في العلاج و سد الرمق و صراع البقاء بعد نفاذ نقوده و مؤونته و سلبه من طرف قطاع الطرق.

كان المسافر الأوربي يستغل أوقات مكوثه في القري للاستفسار عن المناطق التي يمر بها نهر النيجر و سكانها و تضاريسها و مدنها و كذلك عن المعتقدات السائدة مما جعله يقارن بين شهادات السكان ليستخلص المتفق عليه في مواضع لم يمر عليها مثل مقارنة مدينة جيني و تومبوكتو و ولاته (كعواصم تجارية و ثقافية) و المسافات بين ولاته و تومبوكتو (10 أيام) و بين بانعوم و الصويرة بالمغرب عبر تيشيت (زيادة علي شهر) و اخبار أقاليم الهاوسا و مدنها الغنية بالذهب و القماش و السلاح.

استدرك الطبيب المجند ، في حالات عديدة و عند مختلف الأعراق الافريقية، عمق قداسة الأم ، مصدر الحنين في بيئة قاسية، حيث تتردد عبارة رمزية " اضربني أو اقتلني و لا تتعرض لاسم أمي " عند المشاجرات و الأزمات و معرفة الكثيرين عن أخبار قصص الأنبياء بنفس التفاصيل و الكتب السماوية و الشغف بإقتناء و شراء المؤلفات الجديدة و تردد عبارات "سبحان الله " و " لاإله الا الله " في حالات التعجب القصوي و الخوف الرهيب مثل مرور الأسد من قريب أو إكتشاف الزائر الغريب (النصراني) من طرف أناس لم يرو قط شكل زيه و لون جلده و زرقة عينيه و نسق أنفه و احمرار شعره.

و من مفارقات هذه الرحلة أن صاحبها أعتمد زيه الابريطاني و هويته النصرانية دون تقمص تكتيكي مثل ريني كايه ( ولد كيج النصراني) ذاهبًا إلي تومبكتو سنة 1827م و كاميل دولس ( عبد المالك) في الصحراء الغربية سنة 1887م رغم إلحاح جمهور المنطقة علي نطق كلمة الشهادة و تهديد البعض بحمله قهرًا إلي المسجد للصلاة مع الجماعة.

 

كما استخدم الرحالة ثقافة الهدايا لشيوخ القري و الأمراء و مضيفيه لتسهيل مروره من أقاليمهم و ضمان أمنه في حوزتهم و تلقي مقابل ذلك الضيافة ، غنمًاو بقرا ، و الإعانة بالمرشدين لمواصلة مسيره حتي حدود تلك الأماكن كما وقع أحيانًا تحت "قانون المرور غير المرخص" في إقليم كاجاغا السوننكي و سلطنة أهل بهدل بباغنو و دفع ثمن ذلك بمرارة.

 

عانا بارك خلال هذه المغامرة من الإرهاق و الخوف داخل الغابات و العطش عبر صحاري كارتا و عض البعوض في المستنقعات و تسلق التلال الوعرة بحصانه المنهوك و شبح الجوع أمام بعض القري الموصدة الأبواب و السلب من طرف قطاع الطرق المسلحين و أحيانًا خشونة معاملة سكان القري و البوادي الذين يرون " الكائن " الأبيض لأول مرة ليجتمعو حوله ، تاركين أعمالهم الروتينية ، في حالة استنفار و حشد عام متسلقين فوق الأكواخ و البيوت أحيانًا لرؤيته ( في سانساندينغ و قري كثيرة) و محتشدين حوله لعد أصابع يده و رجله و تفحص أزرار زيه في بانعوم و في حدائق بعض القري.

 

تداول المواسم و تدحرج المعنويات بين الأمل و القنوط و مرارة المغامرة في المجهول وحيدًا أحيانًا حتي تراءت له نجوم الزوال و بروق الآخرة قاده إلي لحظات يأس قصوي لولا ضيافة بعض السكان المحليين و إحسان نساء الحقول العائدات من المزارع و رقة قلب آدمي بين تلك التلال أو جمال طحلب بين عينيه كسيرًا بعد السلب و الاعياء و كثافة اليأس في الأفق أو تحرك الأقدار بمزن بعدما كاد العطش يمزق أحشاءه الملتهبة بعد ركض طويل أو نعيق الضفادع الدال علي قرب المياه ؛ مما يجعل هذه المغامرة تحديًا وجوديًا بكل المقاييس .

شعر الرحالة المغامر بخيبة أمام صد أبواب مدينة سيكًو ( عاصمة مملكة البامبارا) عنه و تحفظ الملك مانسونغ الذي اكتفي بتوجيهه إلي قري مجاورة و إهداءه بعض "النقود" ( صدف بحرية Cowries )

قد تساعده في الطريق مع الاعتذار عن استقباله لعدم وضوح هدف جولته الغريبة أو فتح مجال مدينته المحصنة و المقسمة علي أربعة أجزاء حول النهر

 

مضي الجراح الابريطاني بارك خلال طريق عودته ، بعد

مئات الاميال من مسير عسير ، سبعة أشهر مريضًا بالحمي و الإرهاق بقرية كماليا Kamalia بإقليم الماندينغ تحت رعاية شيخ إفريقي يسمي كارفا من زبناء د. ليدلي ، سجل خلالها ملاحظاته الدقيقة عن الزراعة و التدريس القرآني ( إنتشار الكتاتيب و إحترام مدرسي القرآن) و عادات السكان و معانات الرقيق و أنواع التبادل التجاري و الآلات الموسيقية ( التيدناتن ، الطبول ، الكورا و النيفارة ) و أنواع الأمراض ( الحمي و الجذام و دودة غينيا )و تغيرات المناخ ( موسم الخريف الممطر ، و الرطوبة و حر الصيف…) و الوجبات الشائعة ( الكسكس و الذرة و الشعير و الأرز و المشوي و انواع الخليط …) ؛ قبل ان يواصل رحلته في زي افريقي ، ناوله إياه مضيفه كارفا بعد ما صارت بقايا ثيابه الأوربية أسمالا بالية فوق جسمه النحيل المصفر من الحمي و المثقل بلحية سماه بها السكان المحليون سنينا بعد مروره الغريب

 

سمع بارك ,أيام وصوله إلي مملكة كاسون , بوفد آلمامي الفوتا تورو ( جماعة من فرسان فوته ) يطالب سكان تلك البلاد و أمرائها باعتناق الاسلام إذا أرادوا وقوفه معهم في حربهم مع كاجاكًا و كذلك قصة صراع الأمير عبد القادر كان و قائد الجلوف Damel علي نفس الموضوع ؛ و خلافات مملكة "جاكًاجا" السونونكية مع بعض جيرانها من الماندينغ و غيرهم.

كما شاهد بارك مداولات قضائية لحل بعض الخلافات المدنية ( قتل مزارع لحمار منم بطش بحقله )و الاجتماعية ( ظهور رجل بعد غياب طويل أدي لزواج امرأته بآخر) و بعض الجنح و الشكايات التي كان القضاة و مجلس حكماء القرية يتداولون بشأنها.

لاحظ بارك نظام القري و طريقة الضيافة (وجود مكان عام للزوار و الاجتماعات و حل المشاكل حول شجرة البنتانغ Bentang tree ) و انتظار إذن شيخ القرية the Dooty بتحديد مكان الإقامة و أنواع التحصينات من التهديد الخارجي بحيطان الطين أو أعمدة الأشجار و السوار المحكم حول محيط القرية و خنادق الحماية من الغارات المفاجئة.

 

مرور مونكًو بارك الاضطراري بأراضي تابعة لسلطنة أهل بهدل ( أولاد امبارك)، نظرًا لاقتراب نشوب حرب بين ملك سيكًو مانسونكً و ديزي ملك كارتا، التي سماها "مملكة ولد اعمر kingdom of Ludamar” و مكث داخلها قرابة أربعة أشهر " سجينًا " ، علي قوله ، و فر شهادة هامة علي نمط حياة " البظان the moors” و علاقاتهم آنذاك بالممالك الافريقية المجاورة و طرق التجارة الشمالية الي المغرب و الشرقية إلي تومبوكتو وأقاليم الهاوسا و تصورهم للأوربيين النصاري البيض. و سنرجع لبعض ملاحظاته و ظروف اعتقاله و يوميات بانعوم أيام الأمير أعل ولد أعمر في مقال آخر ان شاء الله.

و تجدر الإشارة أيضًا إلي حديثه عن الإمارات الحسانية التي سمع بأخبارها و قوتها ( اترارزه و لبراكنه حسب مصادره) و بعض المجموعات البشرية في المنطقة : كًدموله، جافونو و بانعوم حسب سماعه.

 

شكلت هذه الرحلة اختراقًا إستراتيجيًا في العمق الغرب إفريقي من طرف الجمعية الابريطانية بعد المحاولات اليائسة للضابط الابريطاني دانيال هيوكًتون Major Houghton الذي اختفي بين جارا و تشيت في طريقه إلي تومبوكتو شمالًا سنة 1791م و قبل رحلة كًوردن لينغ Alexander Gordon Laing المقتول بعد رجوعه من تومبوكتو سنة 1826 و رينه كايه ( ولد كيج النصراني Renee Caille ) الذي أمضي ، بعد مروره من لبراكنه ، أيامًا من شهر ابريل 1828 بالمدينة متقمصا هوية مسلم مصري و رحلات الفرنسي موليانه Theodore Gaspard Molien سنة 1817 في حوض السنغال و منطقة فوته و الألماني بارث Heinrich Barth إلي مالي و السودان و تشاد قادمًا من طرابلس بين 1849 و 1855 م و غيرهم.

 

أهمية مثل هذه الشهادات الموثقة ، رغم نظرتها الاستعلائية الاستعمارية أحيانًا و بعدها المخابراتي و التبشيري ، بالغة في مجتمعات تسيطر الثقافة الشفهية علي احداثياتها نظرا لندرة المادة التاريخية و الانتروبولوجية المكتوبة و ضياع الكثير من الأخبار بعد موت الروات و الفنانين الكبار و الشيوخ.

 

هذا التقديم "المطول" مدخل لوقفات علي جوانب من هذه المغامرة في بعدها الاستنطاقي للماضي القريب من أجل نظرة معاكسة لاستكشاف المستكشف (بكسر الشين) و استنطاق المستكشف (بفتحها) في حوار بين القرون و الشعوب ، اعتمدنا خلاله الرجوع إلي النص الأصلي للرحالة الذي لاقي حتفه خلال رحلته الثانية غرقا في النهر الذي عشق عند أحد منعرجاته قرب شلالات البوسا (بنيجيريا حاليًا) نهاية 1805 م بعد إرتطام سفينته " the Joliba » بصخور و هجوم السكان المحليين علي بقية طاقمها المشؤوم.

 

سيد محمد بن عبد الوهاب

[email protected]