رحلة إلى عمق منطقة "إكيدي" / إسلمو أحمد سالم..

أحد, 06/20/2021 - 14:48

جمعنا أشياءنا للانطلاق بعد صلاة الظهر ، و تحت أشعة الشمس الحارقة و واقع الزحمة في العاصمة استطعنا التواجد عند ملتقى طريقي عرفات و الرياض ، و بمشورة من أحد الإخوة (القدامى) صلينا العصر في مسجد الدعاة ، و قد كانت صلاة ذات وقع خاص على النفس ، لكثافة العدد و مظاهر الوقار التي تدعو للخشوع ، و رغم أن الصلاة سرية إلا أنك تحس الأجواء النورانية في الأوجه و الملابس و الصفوف المستوية و الإعتدال و تطويل الركوع و السجود .
سيارة "الأمير" مكيفة،  و الرفقة ممن تسر مرافقتهم، فكلهم (قدمى) في مجالات مختلفة، خبروا الحياة و الناس ، و عرفوا البلد بطوله و عرضه ، و عرفوا على مفاصل الدولة و أنماط المسؤولين و أطباق السياسة ، فمنهم المثقف الكاتب النحرير،  صاحب الخبرة الكبيرة و الباع الواسع في مداعبة اليراع و تتبع آلام و آمال المجتمع، و منهم الدكتور الجامعي المتقن للتخصص ، واسع المعرفة و الثقافة و الفكر ، المتضلع في الأدب و التاريخ ، و منهم خبير المحاسبة الذي أتقن فنه،  و علم ثقافة عصره فهو أديب متنور و داعية ورع ، و منهم الصحفي المبهر بدقة الملاحظة و المتقن لفن المحاججة،  حلو العاشرة سمح الأخلاق، لكن العامل المشترك بين كل هؤلاء هو إيمانهم أن هذه الرقعة من المعمورة من حقها أن تنعم بالرخاء و العدل .
تضاريس مدخل العاصمة الجنوبي لعبت به ايادي مقاولي البناء ، فشوهت مظهره و عبثت بسطحه و تتناثر المباني و أمارات القطع الأرضية على طول الطريقة لتحكي كرنفال الحياة و طول الأمل عند الموريتانين ..

 

(2)  الطريق إلى "تكند" سالك و سهل ، و لا مكدر فيه غير أشعة الشمس المائلة من نافذة السيارة ، و قد كانت الرحلة مناسبة لنقاش وضعية موريتانيا و كيف نخرج من عنق الزجاجة،  و متى يتسنى لنا أن نأمن على تنمية بلدنا و نشعر بسيادة العدل و انتشار الأمن ، و قد رأى أغلب الفريق أن الرئيس الحالي يتمتع بمؤهلات القيادة و تلبية الطموح ، و يحتاج لتجديد الطبقة السياسية و استبدال المفسدين و السرعة في اتخاذ القرارات .
في "تكند" تخالك في أحد أحياء العاصمة ، فالمباني و السوق و الحركية و المحلات و النزل،  كلها مظاهر تثبت ذلك ، و أهل "تكند" لا يخفون رغبتهم في تحويلها إلى مقاطعة ، و يرون أن لها مؤهلات خاصة تمنحها الصفة ، فهي متنفس قريب من العاصمة،  و ملتقى طريقي ، و معبر بين المغرب و السينغال ، و مركز تجاري نشط ، و يرى السكان أن من حقهم تحقيق طموحهم في اختيار نواب في البرلمان ، و لست طبعا من أنصار إعادة (خرطنة) المقاطعات و الولايات،  فهي تشتيت و تركيز للشرذمة المجتمعية ، وقد كان بودي أن تصبح الولايات دوائر انتخابية بدل المقاطعات ..
ليست هذه أول مرة أزور بها "تكنت" و لكن المنعرج نحن المذرذرة يفتح لي تسجيل أول دخول للمنطقة،  فاستجمعت كل انتباهي و تركيزي لقراءة المظاهر و الحياة و الناس، و استحضار ملاحم التاريخ و الفن و  الأدب ، مع علمي أن الاستكشاف في هذه المنطقة من أصعب المهمات ..
تتميز الطريق من العاصمة حتى "اركيز" بكثرة المنعطفات المشهورة ، كلها إلى أماكن مشهورة لاولياء صالحين أو مقابر  أو محاظر أو منتجعات ، و يلف شجر السمر و المرخ و الإهليلج و الأيك جنبات الطريق مغطيا تفاصيل المساكن ، في جزء من الضبابية التي تشاع عن المكان .
على طريق المذرذرة تزاحمك صور الماضي بقوة ، و تختلط في خيالك حمحمة الخيل و قرع الطبول و الآي و الذكر و الشعر و تباريح الأشواق و الشدو و الألحان و حنين الناي ، كل ذلك في هدوء ينساب إلى الأنفس فلا تملك غير تتبع الصور و الاستسلام لمشاعر الإعجاب و الإبهار .
كل نقطة من هذه الأرض تحكي قصة ، معركة أو قافية أو حكاية ، و هنا زاحم سلاح الكلمة الزناد ، و تجلت حضارة اللغة حتى أصبحت سمة وطنية ، و تعلم الناس الصبر و الأناة و الإفحام و التبحر في جماليات الحياة، و حفظت اللغة و الأدب و الفن و التراث ..

(3). أعلام المنطقة كثر كأعداد شجر السمر و المنتوج الأدبي وافر و منتشر في كل ربوع الوطن ، و لغة الخطاب نموذج راق و صفة حميدة يسعى لها الفتيان ..
و عندما مرت السيارة بلافتة "ابير التورس" تراءت في ذهني الصور البديعة ل"أزريكة" ولد أحمد يوره التي أهيم بها ، التي يستمتع بها و بها يرقى ، و بالذات هذه الأبيات: 
بكاء حمامات تغنين بالأمس 
                يرد قلوب المرعوين إلى الدكــس
بكيت لأيام بكين لمثلــها     
   وأصبحن من جنسي وما هن من جنسي
يذكرنني عهدا قديما ومعهدا 
        أحب إلى نفسي لياليه من نفســـي
لم تغب عن ذهني شجيرة السنا و لا "العمدة" و لا شواهد الألفية و احمرار "ولد بونه" و لا جحافل العلماء الكبار الذين أترعت عقولهم بالعلوم و أفهامهم بالسير و التجارب، و حول هذا و ذلك تحوم الخيالة و فتيان و أمراء مغفر في مشهد مبهر تحت النقع و قد حموا الحمى و صانوا القيم في تناغم بديع بين اللوح و الزناد..
فنانوا المنطقة ، كما كل أبنائها،  غاصوا في الفن و عمقوا فيه ، فابدعوا و سجلوا الملاحم و حفظوا التاريخ ، و لولا عزوف بعض الصحبة  عن (الفن) ، لطلبت نغمات مرافقة تربط صور المكان مع صور التاريخ التي تزاحم رؤية العين برؤية الخيال .
لم تعطيني السيارة مهلة التقاط الكثير من صور الناريخ ، و كذلك حوارنا الدائرة حول آلام الناس و تجارب الحياة ، فقد دار بنا الحديث في قصص  في أماكن شتى و أزمنة شتى ، استحضرنا النكات و القصص المؤلمة و الأسفار ، و طوحت بنا الحكايات إلى سيلبابي و الضفة و العيون و ألاك و تونس و المغرب ، و إلى التاريخ و السياسة و الإضرابات و الاعتقالات،  و حرب شرببه و تاريخ الرؤساء و الوزراء و الحياة العامة،  و الاقتصاد و المعاملات ، إلى الفساد و الأمن و التعليم و الوحدة الوطنية و الأحزاب و الأغلبية و الموالاة . و لأن الحوار حوار مثقفين ، و لتنوع الاختصاصات ، فقد كانت كل تجربة أو قصة "تكوينا" أو درسا و زيادة في الخبرات..

(4) دخلنا إلى مدينة المذرذرة مع الأصيل ، و مع ميول الشمس ارتسمت لنا لوحة بديعة ، مضمخة في أذهاننا بما تحمله المدينة من تقدير لدى كل الموريتانيين،  و ما أنجبت من أطر و مثقفين و بناة للدولة الموريتانية الحديثة ، و كيف أن أبناء هذا المنكب من البلد يزخر بالدعامة الأساسية للوطن في جميع المجالات،  من الموظفين الأكفاء الصامتين الذين لا يتزاحمون على التعيين و يقوم بالأعمال الأساسية بهدوء و دون استثمار .
يخترق المدينة غور ترى انحداره و أنت في وسط المدينة ، لكنك لا تشعر بتدفق مع النزول لتخرج من المدينة و تحكم بأنها تسربلت بمناظر طبيعية جميلة من الكثبان الموشحة بالأشجار. 
و على بعد عشرين كلم من المذرذرة تجلس بحياء خريدة حسناء ذات صيت و دلال ، و لطالما تغنى بهاالقاطن و المقيم و عابر السبيل ، و لطالما أبدع أبناؤها في إبرازها و إخراجها للناس لطريقة تبعث الإجلال و الإكبار ، إنها قرية "التاكلالت" المنسكبة بجمالها الأخاذ و وقارها الحاني  على كثبان منخفضة غرب الطريق ..
تلقينا قبل دخول القرية دعوة من أحد رجال أعمال المدينة و لم نجد كبير عناء في تحديد المنتجع ، فالرجل معروف و الناس هناك تتقن التعبير و ترصد الأشياء ، و لم يكن الرجل حاضرا في القرية ، لكنه كان حاضرا بمستقبلين بهرونا بحسن الوفادة و الهدوء و توفير وسائل الراحة و جودة الخدمات و أناقة المكان .
لم أستطع أن أشبع نهمي من "التاكلالت"  و قد عشت فيها ليلة مقمرة جميلة في مكان هادئ و نسيم عليل ، و أحاديث متنوعة مع الإخوة على كاسات الشاي ، و على ذكر الشاي شاركوني هذا الدعاء: لا أرى الله "الناها" مكروها في الشاي ، لأن ذلك سيغيب عنا الكثير من جماليات الحياة ، و الشعور بالفخامة و أجواء تذوق المجالس و الأدب و الفن و الجمال .

(5) بعد أجواء صباح جميل في "التاكلالت"  و بعد الإفطار،  إنطلقنا إلى مدينة اركيز في منطقة يسمونها "شمامة"،  على بعد 30 كلم تقريبا ، و قد كان ظني أن المنطقة كلها تسمى إكيدي ..
في منطقة الكبلة لكل مجتمع ثقافته و نمط خطابه الذي يختص به ، رغم السمات الجامعة ، و يختلف اركيز عن المذرذرة في الكثير من الأشياء . 
مررنا في الطريق على منعرج "التيشطيات" و هو تجمع يضاهي "التاكلالت" في الكثير من الأشياء ، و يضرب مثالا صارخا على الدور الذي تلعبه الثقافة في تذويب الفوارق الاجتماعية،  و قد عايشت العديد من أبناء القرية في انواذيبو فعرفتهم بثقافتهم و فضائلهم. 
في الطريق صاحبني الشاعر ولد محمدي، و أنا المفتون بشعراء "العقل" ، و هو يردد 
ﻫـﺎﺝ ﺍﻟـﺘﻔﺮُّﻕُ ﻓـﺎﻋﺬﻟـﻴـﻨــــــــﻲ ﺃﻭ ﺩَﻋِﻲ
ﺷـﻮﻗًﺎ ﺃﺻـﻢَّ ﻋـﻦ ﺍﻟﻌـﻮﺍﺫﻝ ﻣِﺴﻤَﻌــــــــــﻲ
 ﻻ ﺗُﻨﻜﺮﻱ ﻣـﻨـﻲ ﺍﻟﺸُّﺤــــــــــــﻮﺏَ 
ﻓِﻌـﻞُ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕِ ﺑﻜﻞِّ ﺻـﺐٍّ ﻣـــــــــــــــﻮﻟَﻊ
 ﺇﻥ ﺍﻷﺣـﺒَّﺔَ ﺃﻭْﺩَﻋـﻮﺍ ﺇﺫ ﻭﺩَّﻋــــــــــــﻮﺍ 
 ﻓـﻲ ﺍﻟﻘـﻠـﺐ ﺷﺠْﻮًﺍ ﻟـﻢ ﻳﻜـﻦْ ﺑـﻤـــــــﻮﺩّﻉ.
عند دخول "اركيز" يتوقف الطريق المبلط ، و تبدأ رحلة "غامضة"  تتطلب الصبر و الأناة ، فمن حيث الشكل تختفي الأسوار الاسمنتية و تحل محلها الحظائر،  و الشوارع أقرب هي إلى المتاهة ، و من الصعب أن تستطيع تحديد مكان وجهتك بالضبط لأن الأجوبة هنا أقرب هي إلى الألغاز ..
عبرنا ، مع الصبر ، الكثير من المطبات حتى وصلنا إلى النقاط الأساسية التي نود زيارتها ، و قمنا بزيارة البلدية و السوق و مررنا ببعض المؤسسات التعليمية و الصحية ، و تحدثنا مع بعض الناس..
تحتاج المدينة للتخطيط العمراني ، حيث يستحيل أن تخترقها شوارع مبلطة ، و لعل هذا هو ما أوقف الطريق عند المدخل ، كما تحتاج المدينة لمؤسسة ثانوية .
الطريف أن هذه "البعثة" التي أثارت انتباه الكثير من أبناء المدينة قررت سيارتها ، رغم أنها لا زالت بحالة جيدة ،  ألا تتحرك من أية نقطة دون سرعة ابتدائية .. 
تلقينا دعوات كثيرة للمقيل، و أحطنا بحفاوة كبيرة حيثما حللنا و توفرنا على المعلومات الأساسية حول المهمة ، ثم قررنا العودة .
غادرنا اركيز و أنا أشعر أنني لم أستطع إعطاءها حقها في الوصف، لأنني لم اتعرف على الكثير من جوانب الحياة ، و لم استطيع استثارة ماضيها و لا مظاهر حاضرها،  لأن ذلك يتطلب فك الشفرات و الشرح و المراجعة ..

(6)  أخذنا طريق العودة إلى العاصمة ، و لكننا أصررنا على أن نغوص و لو قليلا في "التاكلالت" ، و وقع الاختيار على المجمع القطري ، و لقد ابهرنا بحسن استغلاله ، فقد حولت إليها الإعدادية الحكومية ، و استغل مركزه الصحي .
الناس هنا منتظمون في جمعية محلية للتنمية (ADC) و هي التي تشرف على الممتلكات غير المسيرة من طرف السلطان الإدارية ، و تقوم بالصيانة و حسن الاستغلال ، فمحطة الكهرباء مسيرة من طرف أحد أبناء القرية (مضيفنا) ، و  هناك الحدائق و الجمعيات الدعوية و الثقافية و الحدائق و المساحات الخضراء داخل المؤسسات..
بهرتنا القرية من الداخل بنظامها و نظافتها و تحضر ساكنتها ، كما قد بهر كل أبناء موريتانيا أبناؤها المتميزون من أمثال المرحوم جمال ولد الحسن ، و الأستاذ محمد المختار ولد الهادي و غيرهم .
دخلنا إلى المذرذرة وقت القيلولة، فاحتضننا المنزل الفسيح لحاكم المقاطعة،  و أحاطنا  بكرمه و اريحيته و تواضعه ، و قد كانت لنا نازلة مع الجمعة ، و ليس على طريقة الرئيس السابق ، حسمت بحكم "إنها قد تجزئ" .
عدنا إلى العاصمة و نحن نتعاطى أطراف الحديث ، فيحكي كل واحد منا تجربته مع النظام السابق ، و كانت قصة الدكتور الأشد إيلاما و ظلما ..
و لأن أغلبنا من ضحايا حرب "شربله" فقد عرجنا على مقبرة "ترتلاس" من أجل تنسم بعض نسائم هؤلاء "الشهداء" على رأي بعض الأقوال ..
الرحلة كانت ممتعة بالانسجام التام بين الفريق ، و روح الدعابة و الاريحية ، و قد اكتسبت منها خبرة و ثقافة و تجربة ، كما حصلت على جائزة (حسن تسيير) في زمن يكثر فيه نهب المال العام ..
دام الود ، و إلى رحلة قادمة .