جعلت هذا المقال على عدة أجزاء لسبب واحد، هو أن الحديث عن إجماع وطني يجب أن يكون من محللين سياسيين و من مراقبين مستقلين للشأن العام، لا أن يكون الحديث عنه من منظومة سياسية مشلولة و معطلة أو من نخب لها خصوصية مسايرة الأنظمة و موافقتها في كل ما ذهبت إليه خطأ كان أم صوابا.
لا يتأتى الإجماع الوطني بمجرد شعار أوضحت في الجزء الأول أنه لم و لن يكون سوى قصة خديعة تنطلي على الناس لفترة ثم يبطل مفعولها فيفقد الشعار قيمته و نفقد كشعب مع فقدان تلك القيمة قيما و أعمالا نبيلة كان الأولى أن تتم بصدق لا بحربائية و أن تكون سبيلا لخدمة الناس لا سبيلا لإرضاء حاكم و إقناعه بأن كل شيء بخير بينما لا شيء بخير مطلقا.
الخديعة التي تعرض لها ولد الطائع و التي كانت سببا في إصابته بصدمة كبيرة بسبب الانقلاب على حكمه، هي نفسها التي تعرض لها ولد عبد العزيز عندما ظن أن البرلمان برلمانه و أن كل من قدمهم للترشح (حرص حرصا شديدا على انتقاء مرشحي الحزب الحكم)، لن يخدعوه أبدا و لن يتخلوا عنه بل سيكونون درعا يحتمي به من المحاكمات السياسية و المحاكمات الجنائية، لكنه هو الآخر تعرض لخديعة لم يكن لها من سبب سوى أنه أخطأ في تقدير الأمور بسبب الشعارات الزائفة و الولاءات الكاذبة.
الشعارات السياسية لا تسمن و لا تغني من جوع، قلتها و سأعود و أكررها، لكن سيتساءل كثيرون لماذا ؟
علكم جميعا تبحثون عن السبب وراء هذا الطرح الذي أعرف جيدا أنه لا يعجب الكثيرين، لكنني متأكد من أن "النصوح" من المقربين من ولد الغزواني يجد في هذه السطور نصوحة صادقة ليس لها هدف سوى تحويل بوصلة هذا المسار إلى الطريق القويم.
من الأمور التي تجعلني بالفعل أتحدث عن هذا الموضوع هو خطورة هيمنة النظام القديم و حرسه المستميت في الدفاع عنه، على مقاليد الحكم بنفس الطريقة التي هيمن بها على الأنظمة السابقة منذ العام المشؤوم الذي تحول فيه الحكم من حكم مدني صرف إلى حكم عسكري.
فبالنسبة لي لا تأثير للرئيس "كشخص" على المنظومة ما لم يصاحب قدومه للسلطة حدوث تحول إما داخل المنظومة السياسية و تغير في أجهزة الحكم الباقية خاصة منها ما لا يتحكم به الرئيس، فالجهاز التنفيذي تغييره وحده لا يكفي، ما دام الجهاز السياسي بشقيه الحزبي المدني و البرلماني التشريعي غير منسجم.
لقد تحدثت بصدق عن عدم انسجام داخل منظومة الحكم التي يتولى ولد الغزواني قيادتها، لكن عدم الانسجام ليس مقتصرا على الجهاز التنفيذي، حتى الجهاز السياسي أيضا ليس منسجم، فالحزب الذي يحكم به ولد الغزواني رغم الظاهر من دعمه للرئيس و جعله مرجعية للحزب و رفضه للرئيس السابق إلا أن هذا الجهاز أيضا غير منسجم، فرئاسة الحزب و أعضاء مكتبه التنفيذي و أعضاء مجلسه الوطني ليسوا بذلك المستوى من الانسجام الذي يبعث للارتياح، فالتيارات السياسية و الأديولوجيات و التناقض الصارخ سياسيا و فكريا و ثقافيا بين كل أولئك الأعضاء لا يخفى على المتفحص الناظر بعين ثاقبة لواقع الحزب الحاكم.
أيضا الجهاز التشريعي هو الآخر لم يعد ذو نفع و لا ثقة فيه من طرف الناس، فالكل مجمع على أن الأغلبية في البرلمان ـ و إن كانت بها أطياف سياسية متشعبة شيئا ما تعبر عن تمثيل نسبي للتيارات السياسية الموجودة في البلد ـ إلا أن الانسجام بعيد من الأغلبية التي تظهر ولاءها للرئيس، و ذلك بسبب عدة عوامل أثرت على هذه الأغلبية بالذات و أعطت انطباعا أن من بها من نواب خاصة القادمون من لوائح وطنية و لوائح انواكشوط و بعض ولايات الداخل، لا يمثلون بحق المواطنين و لا يهتمون لمشاكلهم و لم يحركوا ساكنا في سبيل انقاذهم من عدة أزمات تعرضوا لها، رغم استثناءات محدودة لبعض النواب الصادقين الجادين من هنا و هناك.
إن الإنسجام معدوم في الجهاز التنفيذي، معدوم في المنظومة السياسية و معدوم حتى بين النخب التي تساير النظام و تعلن ولاءها له.
أكثر ما استفاد منه غزواني و ما يشفع له إلى حد الساعة هو بعض تلك النخب النبيلة المجدة التي استجلبها وقت مقدمه إلى الحكم و التي أبان بعضها عن جدية في أداء المهام الموكلة إليهم و من ضمن تلك النخب يظهر الذين لم يكن لهم يوما دور في تسيير الشأن العام، حيث أبانوا ـ على قلتهم ـ عن قدرات كبيرة و كفاءة عالية قد تشجع الرئيس ـ إن كان جادا بالفعل في الإصلاح ـ للمضي قدما في زيادة عددهم طبقا لمواصفاتهم البارزة في تسيير عدة مؤسسات عمومية و بعض الوزارات بطرق و أساليب جادة و مجدة آتت أكلها بشكل ملموس.
و هذه النخب التي برزت في التسيير مؤخرا، دليل قاطع على أن دعوتي لولد الغزواني للتقرب أكثر من الشباب الموريتاني الكفء، دعوة صادقة لمصلحة ولد الغزواني كرئيس أولا و لفائدة المواطنين الذين ملوا الفاسدين.
فالدولة في نظري لا تتطور بمواردها المالية و لا بمواردها الطبيعية، بل بمواردها البشرية أولا و قبل كل شيء.
أما الاجماع الوطني الذي يتحدث عنه بعض الساسة بين الفينة و الأخرى تارة على شاشات التلفزيون و تارة أخرى في تدوينات مقتضبة أريد بها تبرأة الذمة و ضمان الحظوة لدى السلطان فقط و إلا خدمة لمصالحهم و تدابيرهم و أمورهم التي تتعلق ببقائهم في مناصبهم أو مكانتهم السياسية في المنظومة الحاكمة و لو من بعيد.
أما الإجماع الوطني الحقيقي الذي تطمئن له نفوس المواطنين هو إجماع تتسجد فيه المعاني التالية :
أن يكون القانون فوق الجميع من الرئيس و حتى أصغر موظف حكومي
أن يكون الناس سواسية أمام القانون
أن يكون العدل هو الضالة المنشودة التي لا يمل كل مسؤول من البحث عنها و السير في كل السبل التي تؤدي إليها.
الإجماع الوطني إجماع على الثوابت على حماية الحوزة الترابية من الاعداء سواء بالجيش و اجهزة الأمن أو بتوعية المواطن و جعله يعرف جيدا مسؤولياته تجاه هذه الأرض و أن يحمي الوطن و يبلغ عن كل ما من شأنه المساس به.
الاجماع الوطني أن يجمع الجميع على حرمة المال العام و يجمعوا على حماية المملتكات العمومية.
الإجماع الوطني أن يعمل الجميع يدا بيد في سبيل بناء الانسان و تكوينه و تزكيته و أن يتشارك الجميع مسؤولية الرفع من قيمته و الوعي التام أنه ـ أي الانسان ـ هو الضامن الوحيد للتنمية و للنماء و الرخاء، لا شيء سواه.
و هنا سأتوقف قليلا لأبين بعض النقاط التي يغفل عنها أصحاب الافكار النيرة ممن قدموا فكرة "تضامن" و "تآزر" و "بيتي" و غيرها من المشاريع الكبيرة ذات المردودية المحدودة في مجالات التنمية المستديمة.
فالذي سيقضي على الفقر ليس تقديم المساعدات للناس، فتلك المساعدات تعلم الناس التكاسل و تجعلهم لا يسعون للاسهام في بناء الوطن.
بل إن تربية الاطفال و توفير تعليم جيد و مجاني أكثر نفعا على اسرة فقيرة من كل تلك المساعدات، فالاسرة الفقيرة يمكن أن تكون غنية يوم ينجح ابناؤها و يتم تعليمهم تعليما جيدا يجعلهم سندا لأهلهم و سندا للدولة حيث يمدها بالكفاءات المطلوبة و يخلق بها طبقة وسطى ضامنة لنمو اقتصادي مستمر و لحماية اجتماعية شاملة و دائمة.
فالتعليم وحده هو الوسيلة المثلى للقضاء على الفقر و الرفع من مستوى المعيشة و الامداد بالكفاءات و الخبرات المطلوبة في مجالات العمل.
و هنا يمكن أن أقدم مثالا حيا على ذلك، فتلك الأسر التي كانت تعيش في عهود سابقة في الفاقة و الفقر و تسكن الاكواخ لم يتحسن وضعها المعيشي إلا بفضل أبناء وجدوا الفرصة للتكوين و الاعداد الجيد فتمكنوا من نقل ذويهم من الفقر المتقع إلى المنازل الفاخرة، أنت أيها المسؤول الذي تقرأ هذه السطور و تنطبق على أسرتك هذه الحالة تعرف ذلك جيدا.
التعليم هو وحده وسيلة القضاء على الفقر أكررها مرة أخرى.
أيضا الصحة هي الوسيلة الثانية لبناء الانسان، فالانسان ذو الجسم السليم هو الذي سيكون قادرا على المساهمة في البناء و سيكون قادرا على أداء عمله بشكل سليم.
لا يمكن بناء وطن بشعب سقيم أو شعب جاهل.
الاجماع الوطني حول الثوابت يجعل الامة محصنة ضد الاختراق و يجعلها متحدة في سبيل تحقيق الاهداف النبيلة التي من شأنها أن تبني الوطن بشكل مستديم.
أما ذلك الذي يظهر كشعار لدى بعض الساسة فليس اجماعا وطنيا، بل إجماع مصالح و أغلب الحال يكون إجماعا على النهب و السلب و الظلم و الغبن و الاساءة للثوابت و تحطيم معنويات الاجيال و بناء إنسان خمول جاهل و مريض يعاني في صغره من سوء التغذية و سوء التربية الاخلاق الذميمة و يتعرض حين أشده للجهل بالقيم و الانضباط و الانتماء، و يعيش عالة على الاعانات الاجتماعية و مشاريع الالهاء و المسكنة، ثم ما يلبث أن يتملكه المرض ليقضي بلا دور في هذه الحياة.
أجمعوا على الوطن و ليكن المواطن غايتكم لا على شخص الرئيس، أجمعوا على الانسان لا على المال و الموارد الطبيعية التي تتبعكم لعنة الاتكال عليها إلى اليوم.
حين تجمعون على الوطن عندئذ سيكون دعمكم صادق للرئيس الغزواني و لمن سيأتي بعده و سيكون صدقا تسميتكم نخبة وطنية و ستكون الشعارات التي ترفعونها بعيدة عن الخداع و التزلف و تدخل البهجة على نفوس المواطنين إذ يتلمسون ثمارها.
محمد فاضل الهادي