عززت الجزائر وموريتانيا تعاونهما الاقتصادي والعسكري في الفترة الأخيرة بشكل غير مسبوق، خاصة بعد زيارة قائد الجيوش الموريتاني للجزائر مؤخرا، في ظل تطورات أمنية خطيرة بمنطقة الساحل، ستكون لها تداعيات سلبية على البلدين.
ومع قرار فرنسا تخفيض تواجدها العسكري في الساحل الإفريقي، إثر إخفاق جهودها في الحد من نشاط الجماعات المسلحة، تتحضر الجزائر لملء الفراغ الأمني في المنطقة لكن وفق مقاربة مختلفة.
فخلال زيارة قائد الأركان الموريتاني محمد بمبا مقيت، إلى الجزائر ما بين 5 و6 يناير/ كانون الثاني الجاري، دعا قائد الأركان الجزائري سعيد شنقريحة إلى تعزيز العلاقات الثنائية العسكرية التي تربط البلدين “من أجل مواجهة مختلف التحديات الأمنية التي تهدد المنطقة المغاربية ومنطقة الساحل“.
وفي خطوة من شأنها إعادة بعث الروح في ما يسمى بدول الميدان (الجزائر، موريتانيا مالي والنيجر) التي تشكلت في 2010، شدد شنقريحة على “أهمية الاستفادة بشكل أكبر من آليات التعاون الأمني المتاحة، لا سيما لجنة الأركان العملياتية المشتركة CEMOC”، التي يوجد مقرها في مدينة تمنرست أقصى جنوب الجزائر.
وحدد شنقريحة، طبيعة هذا التعاون في “تبادل المعلومات، وتنسيق الأعمال على جانبي الحدود المشتركة للدول الأعضاء”.
وهنا يكمن جوهر الخلاف بين رؤية الجزائر في مكافحة التنظيمات الإرهابية، والتكتيك الفرنسي في قتالها بمنطقة الساحل.
فباريس تفضل التدخل العسكري المباشر في دول الساحل، عبر قواعد عسكرية وطائرات مقاتلة وعمودية وأخرى بدون طيار، بالإضافة إلى فرق عسكرية على الأرض، مع تشكيل تحالف مجموعة الخمسة (النيجر ومالي وبوركينا فاسو وتشاد وموريتانيا)، الذي تشكل في 2017.
بينما ترى الجزائر، أن تتولى كل دولة من دول الساحل قتال الجماعات الإرهابية داخل أراضيها مع تنسيق استخباراتي وعسكري بين هذه الدول على الحدود.
وتعتبر الجزائر أن تدخل فرنسا ذات التاريخ الاستعماري في الساحل لن يساعد سوى على شحن العداء الوطني والديني لدى شعوب المنطقة ضد القوى الأجنبية، ما ستستغله الجماعات الإرهابية في تجنيد مزيد من العناصر.
وبرأي المسؤولين الجزائريين فإن عسكرة المنطقة عبر قواعد أجنبية بداعي محاربة الإرهاب، سيقوض تدريجيا استقلال هذه البلدان، ويضعها بين فكي كماشة الجماعات المسلحة والتدخلات الأجنبية.
مصالح مشتركة وتهديد واحد
ويبدو أن الجيش الموريتاني مهتم بالصناعات العسكرية الجزائرية، خاصة بعد تأكيد شنقريحة على ضرورة التوجه نحو التصدير إلى الخارج.
ففي 21 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، قال قائد الأركان الجزائري، مخاطبا مديري الصناعات العسكرية: “يتعين علينا توسيع دائرة اهتمامات الصناعة العسكرية لتشمل ليس فقط تلبية احتياجات الجيش والأسلاك المشتركة والسوق المحلية، بل تتعدى إلى الولوج إلى الأسواق الإقليمية، بل وحتى الدولية، والتفكير جديا في تصدير منتوجاتنا”.
حيث تصنع الجزائر أسلحة خفيفة وثقيلة مثل العربات المدرعة بالإضافة إلى شاحنات وحافلات وسيارات دفع رباعي، تستخدم لأغراض عسكرية ومدنية، بالشراكة مع عدة دول ومؤسسات عالمية بينها شركة “مرسيدس بنز” الألمانية.
وخلال زيارة قائد الأركان الموريتاني للجزائر، عاين مؤسسة تطوير صناعة السيارات في ولاية تيارت (غرب)، ما يؤشر إلى إمكانية استيراد نواكشوط أسلحة ومعدات جزائرية، تتواءم مع عمليات مكافحة الإرهاب في الصحراء الكبرى.
فعلى الرغم من أن موريتانيا لم تتعرض لأي هجوم إرهابي منذ 2011، إلا أن حدودها الجنوبية الشرقية مع مالي غير بعيدة عن منطقة الحدود الثلاثة الملتهبة، مما يعني أن التهديد ما زال قائما، خاصة وأنها جزء من مجموعة الساحل الخمسة التي تقودها فرنسا.
وسبق لموريتانيا أن واجهت حربا عنيفة مع الجماعة السلفية للدعوة والقتال، التي أصبحت تسمى القاعدة في بلاد المغرب، منذ 2008، بعد هجوم على بلدة تورين (شمال) وأسفر عن خطف 12 جنديا وقطع رؤوسهم، ليمتد القتال بين الطرفين إلى شمال مالي.
وتخشى موريتانيا أن يمتد القتال من مالي إلى داخل حدودها، رغم أن مركز الدراسات الإفريقية، تحدث عن شكوك حول توصل نواكشوط في 2011 إلى “اتفاق عدم اعتداء متبادل مع المجموعات المتطرفة العنيفة”، زاعما أن جيشها تفادى مهاجمة المتطرفين منذ ذلك التاريخ.
انتكاسة فرنسا تعيد مبادرة دول الميدان للواجهة
إذا كانت عملية “سرفال” العسكرية التي أطلقتها فرنسا مطلع 2013، نجحت في طرد الجماعات المسلحة من شمال مالي وبالأخص مدن غاو وكيدال وتومبوكتو، فإن عملية “برخان” التي تلتها تواجه منذ نحو 8 سنوات انتكاسات متتالية.
حيث خسرت فرنسا لحد الآن 50 جنديا، اخرهم 5 جنود وسقط مئات من جنود مالي والنيجر وبوركينا فاسو قتلى في هجمات عنيفة لتنظيمات إرهابية عديدة بينها “داعش الصحراء” وتحالف الجماعات الموالية لتنظيم القاعدة وأيضا بوكو حرام.
وتحولت منطقة الحدود الثلاثة المشتركة بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، إلى معقل جديد لتنظيم “الدولة”، بعد هزيمته في العراق وسوريا وليبيا.
وأخفقت عملية برخان الفرنسية، التي تضم 5100 جندي في تطهير المنطقة من المسلحين، رغم وجود قوات من الاتحاد الإفريقي ووصول دعم عسكري من دول أوروبية، ناهيك عن التواجد العسكري الأمريكي بالمنطقة عبر قاعدة جوية رئيسية للطائرات بدون طيار في النيجر.
ومع قرار فرنسا تخفيض قواتها في الساحل على غرار الولايات المتحدة، بالتزامن مع تصعيد الهجمات الإرهابية في المنطقة، فإن الثقل الأكبر في محاربة المجموعات المسلحة سيقع على دول المنطقة وخاصة مالي والنيجر وبوركينا فاسو.
فيما انكفأت تشاد على نفسها بعد إعلان رئيسها إدريس ديبي في أبريل/ نيسان الماضي وقف مشاركة بلاده في عمليات مكافحة المتطرفين خارج حدودها، عقب مقتل 92 جنديا تشاديا في هجوم لجماعة بوكو حرام في 23 مارس/ آذار الماضي.
إذ تتحدث وسائل إعلام غربية، أن تشاد لم ترسل كتيبة إضافية من 480 عنصراً إلى منطقة “الحدود الثلاثية”، كما وعدت بذلك في يناير الماضي.
فما يجري حاليا هو تفكك تحالف مجموعة الخمسة بقيادة فرنسا، التي تبحث عن مخرج مشرف لحربها في الساحل، بينما لا ترغب موريتانيا في التورط بحرب مباشرة مع الجماعات المتطرفة، أما تشاد فلم تعد تغريها المساعدات الفرنسية أمام التهديد الذي أصبحت تشكله بوكو حرام وداعش على أمنها القومي.
وهذا الواقع قد يدفع نحو العودة إلى استراتيجية الجزائر في مكافحة الإرهاب، عبر الإمكانيات الذاتية لكل منطقة، لكن مع تنسيق العمل الاستخباراتي والعسكري على الحدود بين بلدان المنطقة.
وبالنظر إلى تجربتها في مكافحة الإرهاب وامتلاكها لأكبر جيش في المنطقة، ترى الجزائر أن تنمية المناطق النائية، والتحاور مع الجماعات المعتدلة وفصلها عن الجماعات المتطرفة، وتعزيز نشاط الجمعيات الدعوية المعتدلة، على غرار رابطة علماء وأئمة ودعاة الساحل، من شأنها مجتمعة تجفيف منابع الإرهاب وعزل المتشددين.
ويمثل التقارب الجزائري الموريتاني فرصة لإعادة إحياء مبادرة دول الميدان، لكن ليس من المؤكد أن تصمد مالي والنيجر وبوركينا فاسو بدعم فرنسي أمام الضربات العنيفة لداعش والقاعدة وبوكو حرام.