الإعلام نت - خطر لي أن أعلق على سخرية الدكتور عاطف عبد الجواد - الاعلامي المصري المعروف - من موريتانيا معتبرا في كلام له حول سقوط ترمب أنه لن يرأس"لا أمريكا .. ولا موريتانيا ولا موزمبيق". لو لم يكن الدكتور عاطف لما اهتممت بالرد عليه.
درج بعض إخوتنا المصريبن على ذلك النمط من الاستدعاء لأسماء دول عربية إفريقية حين يضربون المثل في التردي والبعد عن الحضارة؛ أو من باب التهكم والمبالغات الساخرة. كانت دولتان افريقيتان في مقدمة تلك اللائحة المفضلة لديهم :موزمبيق وبوركينا فاسو .. وتضاف لهما الصومال من باب البونيس والتنويع.
لكنه تهكم يحدث عن جهل بالآخر عميق لدى المصريين تستوي فيه نخبهم وعامتهم ونرجسية ماضوية: فيقعون في قراءة الآخر بعين قاصرة اطلاعا فيسقطون سوءة الجهل به ثقافة على حاله هو صفة! جهل بالثقافات الأخرى وأنماط الحضارة إذ يدفنون أنفسهم في مجد حضارة فرعونية لعلهم امتعضوا مؤخرا – وتجاهلوا اعلاميا - من كون فراعنتها كانوا سمرا أي "أفارقَة" كما يحلو لهم هم اليوم الإشارة إلى الآخر الافريقي القادم من الادغال! ذلك أن الدكتور "أنتا جوب" الباحث المعروف قد طرق تلك الفرضية البحثية واتبعها تقصيا لدراسة عينة من بشرة بعض الموميات لتدرس على ضوء اختلاف بنيات البشرة من عرق للآخر؛ ليخلص لذلك الاستنتاج.
ليس ذلك موضوعي هنا فلست اركيلوجيا ولا مهتما ب"المصريات" - العلم المهتم بدراسة مصر العتيقة. لكن أسوقه في مفارقة إشارة المصريين إلى الافارقة بدونية، وكونهم في قول راجح (الأفارقة) هم أصل فخر الفرعنة المصرية والباقي هكسوس وكوكتيل شعوب قادمة عبر الهجرات .. العروبة نفسها معطى وافد على حوض النيل .. والديموقراطية لم تصل بعد حتى كتابة هذه السطور لأنها في انتكاسات ارتهان لفرعنة متكرسة في السلط هناك منذ رمسيس مرورا بمحمد علي ووصولا لعبد الناصر ولواحقه من زوائد الضباط.
خلال محاضرة في الدراسات العليا ذكر الأستاذ الدكتور الجهبذ المصري - الذي يدرسنا مادة ذات أهمية في المقرر- "نادي برشلونة" فقال إن موريتانيا تقع على المتوسط فاستفز ذلك أحد الطلبة لينفي له ذلك بأدب مشبع بالتقزز من من ذلك المستوى من الجهل بالجغرافيا السياسية لأستاذ جامعي في البقعة الجغرافية نفسها اقليما وقارة!
ليس ذلك الجهلُ والعجلة في الحكم المشوب بالعزة بالإثم تعاليًا وثقة في الذات بناج منه إلا من رحم ربك من النخب المصرية. حتى إن أستاذ الفلسفة ورئيس قسمها بجامعة القاهرة وأحد الكتاب "الكبار" الذين يصنفهم البعض مفكرين وصاحب رأي في التجديد، والمترجم ل سبينوزا والدارس ل هيجل المدرس له، والزاعم له جمهورُه المريد أنه يمتلك مشروعا في التراث على نحو مشروع الجابري؛ حسن حنفي، المصنف عالما بالتراث الإسلامي وكاتبا في الفكر الديني: لم يمنعه ذلك من أن يتسرع – ب"مصرية" وتعالي عبد الجواد - فيقتطع حديثا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من سياقه قارئا له بجهل مضحك جدا في النحو وقواعده فانطلق يسفه ذلك المحدث المورد له معتبرا الحديث من موبقات "الرواية الخرافية" ذاكرا أن الرسول عليه الصلاة والسلام يأمر بالتداوي ببوله واطعامه الناس!
قال الاستاذ المفكر حسن حنفي : إن بالحديث ما يفيد أن "الرسول بال على الطعام" وفهم الجملة التي قبلها " عَنْ أُمِّ قَيْسٍ بنْتِ مِحْصَنٍ، أنَّهَا أتَتْ بابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ، لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ، إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فبال عليه": فهم عبارة "لا يأكل الطعام" أنها دالة على مرض الصبي فاعتبر أن السيناريو : أتت امرأة بصييها المريض غير الآكل للطعام فقام – وفق فهمه العجيب – الرسول عليه الصلاة والسلام بالبول على الطعام ليعالج به الصبي! فبنى هو على ذلك ليلغي الحديث!(الموضوع موجود في كتابه "من النقل إلى العقل"- للأسف - وسبق لي تناول ذلك بالتفصيل).
لم ينتبه أن "لا يأكل الطعام" تعني بببساطة انه صبي رضيع وأن "بال عليه" أي على ثوب الرسول عليه الصلاة والسلام. والعجيب أن الحديث موجود برواية مفصلة لدى لبخاري لو قرأها حسن حتفي لفهم لأنها تفهم الأبله. لكنه قفز إلى الحكم والتحليل!
سقوط مؤسف لأنه من زاعم التحقيق في الحديث والاطلاع حكم بمجرد انطباع تشكل لديه جهلا بالعربية وعدم أناة في تتبع النص وقراءته قراءة هي في وسع طالب ابتدائي غير متقن ومتوسط الفهم لكلام العرب!
ذات مرة، كنت عل شباك مكتب للبريد في القاهرة وأنا أنتظر دوري في إرسال فاكس لا أملك له غير مبلغ زهيد هو بالضبط ما يفي بإرساله؛ بعد أن استعلمت مسبقا عن الموضوع. عند وصولي إلى موظف الشباك قدمت الورقة وذكرت أن موريتانيا (الجهة المرسل إليها) ضمن جامعة الدول العربية وتلك لها تعريفة مخفضة (هي ما يناسب المبلغ في جيبي). انبرى شخص ممن كانوا معي في الطابور، متأنق يوحي مظهره بانه محام أو أستاذ جامعي (حقيبة يد أنيقة ونظارات وهندام مرتب)؛ قال الرجل: آآه موريتانيا دي تبقى جنب غانا!
انفعلت بشدة ليس لكوني كنت على عجل وقليل المال حينها وأريد انهاء المعاملة؛ بل لأن الرجل تعدى على بلدي بزعم ثقافة معرفة به وهو أمر يضايقني كثيرا من الإخوة المصريين : فهم لا يقولون "لا أدري" أمانة علمية. أجبت الرجل: "موريتانيا مش جنب غانا .." فأردف : "هي تقريبا جنب .." (مخمنا في غرب افريقيا ومواصلا إعطاء الشعور بالثقة في طلاعه السندبادي). لاحظت أن الموظف وزميله كأنهما يصدقانه؛ فمظهره وكونه "أستاز" مصري وأنا بمظهر فتى جامعي غير مهذب الهندام تماما ومتعب الهيئة؛ كل ذلك لم يكن سياقا في صالحي.
لم أنبس ببنت شفة خارجة عن الأدب بل اكتفيت بإخراج كتلة الغضب لدي بعملية تامة فأخرجت جواز سفري وقلت عاضا على نواجذي " دي بلدي .. هتعرف بلدي اكتر مني .. يا أخي؟"
انسكب دلو ماء قذر على الرجل ولم يسلم الموقف من ابتسامة سخرية من مواطنيه المصريين الموظفين ..وبالفعل تأكد الموظف خلف الشباك ودقق في اللوائح ليعرف أن موريتانيا تدفع تماما كالدول العربية؛ فأنهى المعانلة لأغادر المكان.
كان الاستاذ الكتور يحيى الجمل رحمه الله - وهو من هو مكانة في القانون الدستوري - يحب الموريتانيين ضمن طلبته ويثني عليهم ووقع ذات يوم في "مصرية نمطية" – كحال عبد الجواد - فقال لأحد طلبته وكان اسمه "يحفظُ" – يحفظ ول محمد يوسف رحمه الله؛ الذي كان رئيس المحكمة العليا هنا – قائلا: يا أخي انتو اساميكُ عجيبة: بتسمو ع الافعال "يحفظ"، ينجَ" .. االخ. رد يحفظ بهدوء" أستاذ: مش "يحيى" بردُ على ذلك المنوال؟. فضحك الدكتور "يحيى الجمل" بألم من أدرك خطأه والفخ الذي وقع فيه أمام ذلك الشاب الموريتني الهادئ المؤدب "يحفظُ" وانقضت الطرفة تعادلا 1-1.
خلال زيارة ول الطايع للقاهرة في التسعينات تفاجأت وأنا أتباع القناة الأولى بأن خيري حسن كبير المذيعين يقول : وصل الآن الرئيس الموريتاني المختار ولد دادَه! اتضخ أن كل ماسبيرو ب"أعلامه" الإعلاميين ومخضرميه لم يجدوا في معرفة اسم رئيس دولة وافد ضيفا على رئيسهم حينها (مبارك). لعل "خيري" بحث في أول أرشيف صادفه فوجد خبرا عن زيارة المختار في الستينات فاكنفى به. لاحقا، تم التصحيح وتطلب الأمر استضافة السفير الموريتني في برنامج "صباح الخير يا مصر" لإزالة الحرج وتذويب ثلج الصدمة من ذلك الموقف. حدث ذلك تماما كما وثق أستاذنا الدكتور في اعتبار موريتانيا مطلة على المتوسط وكما قال الأستاذ الآخر في البريد إن موريتانيا جنب غانا .. جهل واستسهال للمعلومة ممن هم نخب ..
نعم أقولها: بعض نخب مصر من أجهل نخب العالم العربي في الجغرافيا السياسية والثقافية وأكثرها ضيق أفق وضعف لغة وتسرعا في الحكم الواثق.
في ذلك يندرج – بل يصبح مفهوما – أن يقع أحد أشهر إعلامييي مصر وهو دكتور ومار ب الب بي سي في مسار مميز وأستاذ اعلام وخبير في الشؤون الدولية كالدكتور عاطف عبد الجواد فيقفز إلى التهكم على موريتاننيا .. لكن من العجيب أنه كان اختيارا سيئا من لدنه: فلقد أوقع نفسه في الفخ دون أن يدري؟
كيف:
فسقطة الاستاذ عاطف أنه خنق نفسه باتقان دون ان يدري : فهو أورد موريتانيا متهكما في تعليقه الأساسي على الشأن الأمريكي المتعلق بانتخابات وديموقراطية وحرية تعبير ولو قارن مصر بها اليوم – وقت كتابة هذه السطور – لكان قال: "ترمب لن يرأس امريكا .. ولا حتى مصر". يقول الموريتانيون في مثلهم الشعبي عند الحديث عن العلاقات المنطقية في الأولوية "الل اجبر أمُّ ما يرظع جدات" فكيف يقفز عاطف عبد الجواد إلى مورتانيا في كلامٍ موضوعُه الديموقراطية والتعددية ولا يأخذ مصر الجاهزة أمامه؛ فهي اليوم أبشع نظام في مقياس الحريات والانتخابات والفساد والقرن-وسطية السياسية! يعني بالعامية المصرية: الدكتور "قاعد في قصر إزاز وعمَّال يحدف بالطوب يمين واشمال ."
أرجو ممن يعلم للدكتور عاطف عبد الجواد سبيلا أن يوصل هذه الأسطر لجنابه فهي من محب لمصر وللمصريين فهم أهلي وزملائي دراسة وعملا وتوادا وعشت بينهم لسنوات شباب حلوة وأقدرهم جدا.. لكن في هذه أنا لا أساوم لأنها جهل وجهالة وتحامل على بلدي التي لا أحك قفاي للحظة تردد في الرد عنها.