يذهب رأي جميع الباحثين في تاريخ الصحراء الغربية وموريتانيا تحديدا، الأجانب منهم والمحليين على أن حرب «شُرْبُبَّة» شكلت منعطفا حاسما في التاريخ الحديث لهذه المناطق، إنها الحرب التي تحطمت فيها كل أحلام الأمازيغ - صنهاجة - الملثمين في الانعتاق وبلورة مشاريع سياسية وحدوية قوية على شاكلة النموذج المرابطي.
اندلعت هذه الحرب ما بين 1671 و1677م، بين قبائل صنهاجة المعروفة بالزوايا، وقبائل عرب حسان بزعامة المغافرة.
في سياق إعادة تجميع قوى قبائل صنهاجة المفككة والموزعة إثر الزحف الحساني وغزواته على القبائل، تشكل حلف سياسي بين خمسة رجال تقاة، إسمه تْشَمْشَة - شمش- سْمُّوسْ- أي خمسة باللغة الأمازيغية الصنهاجية؛ وينتمون إلى قبيلة «مدلش»، هذا التحالف الكونفدرالي تأسس في وسط يهيمن عليه الظلم والعنف والجور الممارس من قبل مجموعات القبائل العربية المحاربة، مما جعله يتحول إلى نواة حركية دينية إصلاحية بديلة تمتاح نفس أسلوب وخطاب الإرث المرابطي الأول الذي أسسه «عبد الله بن ياسين» وسط قبيلة لمتونة، هذه الحركة المعروفة في الأسطوغرافية المحلية بحركة «ناصر الدين» شكلت آخر حلقة من مسلسل المشاريع السياسية والدينية الأمازيغية في جنوب الصحراء الغربية. يقول محمد اليدالي الذي ترك لنا نصا تاريخيا مهما عن هذه الحركة، عاش ما بين 1685 و1753م، في هوية هذا التحالف «أنتم جماعة تشمشة قدوة الزوايا قديما وحديثا، وأسوة لها يقتدون بكم في كل أمر» !!.
في البداية خرج «ناصر الدين» الذي كان يسمى «أوبك»، إلى الناس يدعو إلى الزهد والتوبة والإصلاح الأخلاقي بدون خطاب سياسي، وبعد أن تكتل والتف الناس حوله بدأ في إعلان الخطوط العريضة لمشروعه السياسي، وتحولت بذلك البيعة والطاعة الروحية إلى بيعة سياسية صريحة، أسس إمارة وعين وزراء و قضاة كلهم من تشمشة. وقاد بصحبة جيشه وأنصاره عمليات التوسع نحو الجنوب على ضفاف نهر السنغال، معلنا الجهاد في سبيل الله، وحقق انتصارات مهمة وكثيرة.
وخوفا من نجاح وصعود حركته السياسية والدعوية، قام عرب حسان بقيادة المغافرة، بالهجوم على إمارة تشمشة الصنهاجية، مما أدى إلى تأجيج الحرب بين الطرفين، يقول اليدالي «ثم ائتمرت الطلبة بينهم و تشاورا ماذا يفعلون لما أغارت المغافرة، فكان أول من تكلم منهم الفاضل ابن أبي الفاضل البوحسني. فقال : أيها الناس، اجمعوا على الإمام العادل من الجنود ما يوجب عليكم قتال هؤلاء المحاربين البغاة الطغاة لما أبوا إلا ذلك، قيل أنهم بلغوا اثنى عشر ألفا».
إن هذا النص يبين بجلاء أن هذه الحرب كانت بين القبائل العربية الحسانية وحلف تشمشة، وهي هجوم بدأه المغافرة من أجل قطع الطريق على إمارة أمازيغية صاعدة، ويدل وصف اليدالي الذي ينتمي إلى تشمشة، الذي نعت المغافرة بالبغاة والطغاة، على أن خلفيات الصراع كانت قديمة وسابقة للحظة تأسيس الحركة السياسية، سيما وأن قبائل صنهاجة كانت تعيش تحت ضغط وعنف مستمر من لدن قبائل حسان. وتعتبر هذه الحركة بمثابة انتفاضة على وضع قائم بقوة السيف والنهب !!.
لن ندخل في تفاصيل حرب «شُرْبُبَّة» و مراحلها التي دامت حوالي 7 سنوات، وبعد سقوط زعيمها الروحي والسياسي ناصر الدين في معركة «ترتلاس» سنة 1674م، بدأ حلف تشمشة في مسلسل الهزائم والنكوص، انتهى بهزيمة تشمشة في معركة «تين افداد» وانتصار المغافرة. محمد اليدالي شرح لنا أسباب الهزيمة بكل وضوح : «وغلب المغافرة لهم بقضاء الله وقدره. ولكن كل شيء له سبب، ومن أسباب غلبهم لهم أن المغافرة أدرى منهم بالمحاربة وخدمة الشر والكيد والتدبير، وعندهم من المكر ما لا تطيقه الطلبة، لأنهم نشأوا في الحرب وتدربوا عليها، والطلبة خانهم سوء التدبير واختلال السياسة وعدم التدريب على كيد الحرب ومكرها ...».
قيل الكثير عن هذه الحرب المفصلية، وأنجزت حولها بحوث جامعية في البلد وخارجه، وكتب عنها الأجانب في بداية القرن العشرين الشيء الكثير، هناك من يقول إنها حرب اقتصادية صرفة وسياسية بين القبائل العربية النازحة والقبائل الأصلية الصنهاجية، كما تذهب دراسات أخرى إلى اعتبارها حرب عرقية بين العرب والأمازيغ. ونحن نقيس هذه الحرب و نحكم عليها بنتائجها التي كان أساسها انتصار العرب وانتشار العروبة، مقابل اندحار الأمازيغ وموت الأمازيغية، ومن بين نتائج الحرب :
- فرار وتشتت القبائل الأمازيغية وتوزعها في الصحراء خوفا من الانتقام وبطش المحاربين المنتصرين؛
- دخول القبائل الأمازيغية المنهزمة تحت سيطرة القبائل العربية الحسانية، وفرضت عليهم المغارم والضرائب والخدمة، وأجبروا على ترك السلاح نهائيا والتفرغ للجانب الديني؛
- توطيد سلطة عرب حسان السياسية والاقتصادية بتأسيس إمارات سياسية قوية؛
- تكثيف التعريب والتَّعرُّبْ، داخل المجتمع وفي التدريس والفضاءات العامة والحياة الثقافية، وظهور تغييرات ومراجعات في شجرات النسب، حيث عمل العديد من أبناء صنهاجة إلى ربط نسبهم بالعروبة وبالأصول الشريفية؛
- إرغام القبائل الصنهاجية على استعمال الحسانية في التداول اليومي، وفرضوا عليهم ترك لغتهم الأصلية، وذلك ما يجعل "الحسانية" تحتوي الكثير من المفردات والتعبيرات الأمازيغية، بعد مسار طويل من الاحتواء.
- ظهور نظام تراتبي جديد خطير ورهيب، جعل من أمازيغ صنهاجة، فئة اجتماعية تسمى ازناگة، وهي فئة قريبة من العبيد يستغلها عرب حسان، و فئة ازناگة تعني المنهزم الخادم التابع لسلطة المنتصر، يقول «رحال بوبريك» عن هذه الفئة «ازناگة» الغارمون وهم الفئة التابعة والتي ينحدر معظم مكوناتها من القبائل الصنهاجية التي انهزمت في مواجهة بني حسان «… وشكلت هذه الفئة ثروة حسان الرئيسية، فكل واحد يعرف أصحابه فمن كان أكثر أصحابا كان أعظم ثروة .. وهم يتبايعون في الأصحاب …».
هكذا أصبح الإنسان الصنهاجي - ازناگ، من فترة كان خلالها أبناء صنهاجة أسياد الصحراء وملوكها يحكمون مجموع الصحراء الغربية وبلاد المغرب والأندلس، إلى مرحلة أصبحوا فيها شبه عبيد محكوم عليهم بالخدمة الدائمة والطاعة بسبب انهزامهم في الحرب أمام عرب حسان.
هذا هو مسار تعريب أمازيغ صنهاجة الصحراء، وتفكك دولهم السياسية واضمحلال قبائلهم، من إمارة "ابدوگل" إلى حلف "تشمشة". وبعد حرب "شُرْبُبَّة" في أواخر القرن 17م، دخلت منطقة غرب الصحراء في حركة تعريب شاملة وسريعة … تلاشت فيها اللغة الأمازيغية بسرعة، ولم يتبق من لسان صنهاجة إلا بعض الكلام اليسير في منطقة الجنوب الغربي من البلاد وأغلبه رث واهترأ لكثرة ما لاكته الألسن، يلمس ما تبقى منه حياً في كلمات قليلة جدا عبارة عن أسماء أماكن منتشرة على رمال الصحراء وكثبانها …!!!.