منذ أيام مر علي إعلان ممول لسيدة تشرح أفكار مهمة في المشاريع باللغة الفرنسية. وعندما نظرت للتفاعلات والتعليقات وجدت أنها ضعيفة وخجولة للغاية.
كانت تلكم المقدمة وهاكم التفاصيل. وسأحاول التحدث بصراحة انطلاقا من فهمي المتواضع للهوية اللغوية في وطن بدأ وقع خطواته في القلب؛ يتحول إلى ضجيج بلا تفاصيل محددة كضجيج النخبة:
في السنغال توجد لغة رسمية واحدة(وافدة)؛ الفرنسية المستخدمة في الإدارة والتعليم. أما لغة التخاطب فهي واحدة أيضا رغم تشعب القوميات، الولفية(محلية). عادة تكون اللغة السائدة في أي بلد، هي اللغة الغالبة عادة في التخاطب اليومي مثل اللهجة الحسانية المشتقة من تسمية قبائل بني حسان العربية عندنا. الإسلام جاء لهذه البلاد قبل هجرة بني حسان إليها، لكن اللغة العربية لم تتغلغل كلغة للتخاطب رغم تغلغل الإسلام إلا مع انتشار الثقافة الحسانية. الفرس قضوا قرونا تحت حكم العرب لكنهم لزموا لغتهم، لأنها بقيت حية في التداول اليومي ومحركا لثقافتهم. يعني هذا أن إقناع القوميات الأخرى بأن عليهم تبني اللغة العربية لأنهم مسلمين لا يبدو لي مقنعا! لكن عليهم تبنيها لأنهم يعيشون في دولة غلبت عليها لهجة مشتقة من العربية أو هي العربية بشحمها ولحمها وهي الأسهل للجميع لتكون لغة التخاطب داخل الإدارة والإعلام والشارع والسينما.. كما هو الحال مع الهندية في الهند، والمندرينية في الصين، والانكليزية في أمريكا، والأسبانية في معظم دول أمريكا اللاتينية مثلا، والفرنسية في فرنسا، وغيرهم كثير.. فرغم وجود لغات متشعبة يتحدث بها سكان هذه الدول إلا أنه توجد دائما لغة رسمية سائدة يتكلمها الجميع في هذه الدول تسهل التواصل والتنمية باستثناء دول قليلة لديها نظام تعددي يتيح لها التعددية اللغوية. غير ذلك، فأي دولة ما تتبنى ازدواجية اللغة وتطبع تقاريرها وتعميماتها بلغتين وتجري مسابقاتها بلغتين وتتكرر الخطابات في ندواتها بلغتين مما يسبب النعاس والخمول، فإنها ستبقى بؤرة للاحتقان الدائم والصراع العبثي المرهق للتنمية..
إن الازدواجية اللغوية في نظام غير فيدرالي منهكة جدا للتنمية والاقتصاد ومضيعة للجهد والوقت باختصار. إنها الحقيقة المرة. فإن شئتم يا نخبة موريتانيا؛ فعربوها أو فرنسوها أو صنينوها أو أنگليزوها أو أسبنوها. المهم وكما قال مجنون كيفة: "امشوا على جهة واحدة". أما تعلم اللغات الأخرى فهو مطلوب ويجب أن يتاح للجميع لكنه ليس ذريعة للقفز على الحقيقة. الحقيقة أنه يجب أن تكون هناك لغة موحدة يعرفها الجميع مع احترام كل اللغات المحلية الأخرى وتبنيها ثقافيا ودستوريا...
لو لم يكن التعليم فاسدا ومسندا على جدار المجاملات والسياسة، لما خرج منه من لا يجيد اللغة العربية ومن لا يقدر على سد حاجته من الفرنسية كلغة مساعدة إن هو أحتاجها في محيط شبه فرانكفوني. بيد أنه الفساد وتلاعب النخب الأنانية لعدة عقود بمصير شعب مسالم يسهل خداعه دائما، مما فاقم من الهوة وزاد من سمك جدار الوهم. شعب منهك ومرهق تنمويا واقتصاديا؛ شبع من سماع الكلام الفارغ واللعب على عواطفه..
باختصار شديد؛ اختلاق أزمة لغوية -رغم وجودها- ليس هذا وقته المناسب؛ الدولة غارقة في الفساد والمظالم والوساطة، قبل خلق أرضية تنموية صحية يشعر الجميع فيها أنهم في دولة تحترم المواطن فإن الحديث عن هذه الأشياء يعتبر تفكيكا لألغام ليس الوقت المناسب مطلقا لتفكيكها ولدينا مشكلة الطماطم والجزر..
أما اللغة الفرنسية؛ فأنها تحتضر في الإعلام والتدوال اليومي، لنتركها للزمن فهو كفيل بها. أما جعلها فزاعة نلقي علينا فشلنا وهي متبناة كلغة أم من أخوة لنا في الوطن نقدرهم ونحترهم كثيرا فهو مجرد وضع للعربة أمام الحصان ولا يخدم أبدا اللغة العربية بل يخلق فوبيا منها بعدما بدأت تتقلص منذ سنين. وما تسمعونه دائما من أن الفرنسية لغة الإدارة والتعليم فهو مجرد تضخيم مبالغ فيه جدا. أنا مثلا درست الجامعة والمدرسة العليا لتكوين الأساتذة باللغة الفرنسية كما درست في التعليم الثانوي ستة أعوام باللغة الفرنسية، لكن عندما تنزعون من تلك المسيرة كلمات مثل donc و on dit que و entrer فلن تجدوا سوى الحسانية الصرفة. ومعظم المتواجدين في الإدارة يعرفون ذلك، ولو فتحتم أفوافهم لوجدتموها محشوة بلكمات donc و Cv لكنهم لا يعرفون الفرنسية، لكن ضعف الشخصية يمنعهم من الحديث بما يعرفون في الإدارات، رغم أنه لا أحد يجبرهم على الحديث بالفرنسية..
الشباب اليوم بسبب بحثه المضني عن العمل أصبح يتخذ كل الأسباب ويتعلم كل شيء؛ حتى لغة العصافير. أعرف شبابا يعرفون من الفرنسية ما لا يعرفه سنغور، لكن من لا يعرفهم؛ يظن بأنهم لا يعرفونها! لأنهم لا يستخدمونها إلا وقت الحاجة إليها، مع ذلك لم يحصلوا على عمل، لأن اللغة الرسمية الوحيدة في موريتانيا هي الفساد والوساطة. والضحية دائما هم المواطنون البسطاء؛ يرهقون أطفالهم بدروس خصوصية في الفرنسية وعندما تأتي الانتخابات يصوتون للنخبة الأنانية والفاسدة ويدعمونها بالتطبيل، ثم يتخيلون أن واقعهم سيتغير، "من لبعر" كما قالت السيدة الفاضلة منت كليب.
دعوا موريتانيا بعيوبها تسير بسلام، كافحوا الفساد أولا..
هنا نواكشوط. الساعة 15:42 وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
المدون: خالد الفاظل