لئن كانت القاعدة التي أسس لها "ابن خلدون" تقول إن الحضارة و التعلم مرتبطان بالتمدن و التحضر، وإن الجهل و التخلف مرتبطان بالبادية و الترحال فإن " المحظرة" الشنقيطية شكلت استثناءً صارخا لهذه القاعدة.
فقد مثلت" المحاظر" الموريتانية مؤسسات تعليمية مفتوحة، ظلت تنشر المعارف العربية والإسلامية بمختلف فنونها في ربوع الصحراء، وكانت وعاءً حافظا لعلوم الشريعة، والثقافة العربية في أرض الملثمين، ومرتعا للنهل من معين لا ينضب من شتي صنوف المعارف .
يعتقد بعض الباحثين أن بداية وجود هذه "المحاظر" كانت مع دخول الإسلام إلي بلاد شنقيط منتصف القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري) إلا أن أصلب الروايات ترى أن تأسيس " المحاظر" كان مع بداية تشكل دولة "المرابطون" حيث يرى هؤلاء أن الأمير اللمتوني "أبا بكر بن عمر" بعد انفصاله عن "ابن تاشفين" بالمغرب وعودته إلى الصحراء اصطحب معه فقهاء قاموا بتأسيس مدارس دينية كانت هي نواة تشكُل مؤسسة " المحظرة" الشنقيطية.
كما هو الحال في الصحراء فالحرية المطلقة – في حدود الشرع – هي القانون السائد هنا، وأهم ما يميز "المحظرة" الموريتانية هو الحرية المطلقة لطلابها، فللطالب الحق في اختيار ما يريد أن يدرسه، و علي أي شيخ سيدرس، و المدة الزمنية التي سيخصصها لدراسته .
كما تتميز "المحظرة" بتطبيق المساواة التامة بين طلابها، فمن أبطأه اجتهاده في التحصيل لم يسرع به نسبه.
والفوارق الاجتماعية ذائبة تماما في " المحظرة" الموريتانية، وإنما الرغبة والاستعداد والجدية والاجتهاد هم محددات النبوغ في التحصيل، كما أن الفوارق العمرية لا وجود لها البتة هنا، فتجد الشاب الطري يتولى تدريس الشيخ المسن، وتجد الطاعن في السن يُباري الفتي المراهق، كما أن المستوى المادي لأي طالب هو في آخر سُلم الاهتمامات هنا.
كما تتميز "المحظرة الموريتانية" بمجانيتها فلا يطلب من الطالب الراغب في الالتحاق بهذه "المحاظر" أي تعويض من أي نوع و إنما تتكفل "المحظرة" وشيخها بتكاليف إقامته و معيشته، والشرط الوحيد لولوج هذه "المحاظر" هو الالتزام الديني، كما أن علي الطالب أن يتوفر علي الإرادة الحقيقية، والصبر والتجلد.
أدوات الدراسة فى هذه "المحاظر" هي أدوات بسيطة أصيلة، تشهد علي عبقرية الإنسان الصحراوي، وتتجسد هذه الأدوات في لوح خشبي، ومحبرة، وقلم سيال، وحبرمصنوع من مشتقات محلية .
فاللوح هو بمثابة الدفتر، حيث تُكتب فيه الدروس المُراد حفظها، وعند حفظها التام يتم غسلها بالماء وتجفيف اللوح لكتابة دروس جديدة، مع العلم أنه عادة ما يكون عدد الدروس المكتوبة في اللوح 4 دروس، في كل يوم يُكتب درس جديد بعد أن يُمسح أقدم الدروس ليحل الدرس الجديد مكانه وهكذا دواليك، و يُستخدم كلا وجهي اللوح لكتابة الدروس، و لماء غسل اللوح مكانة كبيرة في نفوس الطلاب و يجب أن يُسكب في أماكن طاهرة لأنه – في نظرهم- عبارة عن آيات قرآنية، كما أنه لا يجوز تخطي اللوح أو الجلوس عليه، ويعامل معاملة المصحف من حيث القدسية.
أما المحبرة (الدواية أو السمغة) فهي دواة للكتابة على الألواح وتكون عادة من الحجر، وليس لها شكل محدد، غير أن أغلب أشكالها هي المستديرة والمستطيلة.
تتم صناعة القلم السيال-الذي تتم الكتابة به على الألواح-من فروع شجر يعرف بالسبط بعد أن يُبرى بطريقة معينة .
وقد جهر العلماء الموريتانيون بافتنانهم بالأسلوب "المحظري" واعتزازهم بـ"المحظرة" الموريتانية، فقال العلامة المختار ولد بون :
و نحن ركبُ من الأشراف منتظمُ أجل ذا العصر قدرا دونَ أدنانا
قد اتخذنا من ظهور العيس مدرسة بــــها نبينُ دينَ الله تبيانا .
تقرير: التار ولد أحمده موريتانيا (CNN)--