في موريتانيا ، ينطوي نظام الحكم على نواة صلبة هي سلطة العسكر، التي تولت دور عرَّاب يقود سياسة فائقة، فوق الأحزاب ومؤسسات الدولة، يكتفي فقط بتحريك خيوط اللعبة السياسية وتنتهي دائما إلى «تفريخه» جنرالات يمثلون دولة العسكر. وهذه اللعبة المُحْكمة تَوَاتَر عليها النظام، وصارت عنده قاعدة مَكِينة لذلك فتح الرئيس ولد الغزواني لحظة بداية حكمه صفحة جديدة مع المعارضة ، باستقباله رموزها فى القصر بهامش من الديمقراطية على صفحة مجلله بدماء الغدر للرئيس الذاهب ( هكذا بدا من القشرة الخارجية !) . وهي الصفحة التى لا تزال حمراء قانية بدماء فئات اخرى من الساسة ورجالات أعمال ، ولكن الهامش الديمقراطي لا يزال صامدا . هذه المزاوجة بين الاقتراب من ارهاب جماعة الاخوان المسماة تواصل والمعارضة الاخرى بجميع أطيافها تشكل عنوانا ملتبسا للأزمة الضاربة التى تعانيها البلاد فى الوقت الحاضر . ومن الشعارات ذات الدلالة التى اطلقها الرئيس غزواني بداية عهده ' تعهداتي ' وبدا الشعار بعد ذاك أنه يعنى الانفتاح الاستهلاكي على حساب الانتاج . ولكن الوطن ، دولة ومجتمعا، لا يخضع بالتفكير بالأماني ، ولا يستظل من شمس الصيف أومطر الشتاء بالشعارات. وإنما هناك آليات ذاتية وأخرى موضوعية تعمل بموجبها أجهزة الدولة ومؤسسات المجتمع فتقفز الظواهر التى لاتزول بمجرد اعلان الرغبة فى زوالها ، أو حتى بتصميم الادارة على إزالتها .. وتشهد مسلسلات الفساد المخيفة سواء فى الدولة أو المجتمع أن آليات الخطاب الاستهلاكي ظلت دائما أقوى من القانون من يوم حضور الرئيس الجديد . وبدءا من فضيحة صندوق كورونا ، ومن فضيحة البنك المركزي ، وتخبطات اخرى لا حصر لها وانتهاء بالعبث بالمال العام .. كانت رموز المعارضة وكأنها تبارك مايجري من جهة . وكان حزب تواصل بإسم الدين على قدم وساق من جهة اخرى !
ولكن هذه ''الفضائح’’ كلها لم تكن فحسب خروجا على الأخلاق والقانون ، وإنما كانت ولا تزال طبيعيًا لآليات <<النظام العشوائي>> الذى يعتمد أساسًا على التمويل الخارجي وليس على الثروة الوطنية ، كما يعتمد على قاعدة '' أكبر ثروة فى أقصر وقت '' !
فالنظام العشوائي هو نقيض النظام الانتاجي . ومن المؤسف أننا نستدل على العشوائية فى حياتنا حول العاصمة أو اطرافها ، بينما العشوائية تميز نظامًا كاملا، حتى ولو يكن أهلها تفرغ زينة و قلب انواكشوط . العشوائية هي المزاوجة بين برنامج "تعهداتي " والخطاب الاستهلاكي . موريتانيا الراهنة بلد غني بالمال وليس الانتاج . أغنياؤها هم أكبر خصوم ولد عبد العزيز وفقراؤها يكتفون بقراءة الخطاب الاستهلاكي . وهو خطاب مستورد من ألفه إلى يائه وأصحاب الأموال المختلسة تتضامن فى صنع هذا الخطاب وتتصارع داخله أيضا . يتصارعون لتزويد حصصهم من الأرباح والسلطة والنفوذ . وهذا مايؤدى إلى فقر الفقراء والاختناق الاقتصادي والبطالة فهذه كلها عرفناهامن قبل و يعرفها غيرنا من بعد !
لكن الرئيس ولد الغزواني كأنه لم يكن معنيًا بالأمر بقدر ما يهمه أن يكون نجما لأغلفة الفضاء المعارض خاصة بعدما بدأ رحلة الصلح معهم والتى تكاد تكون نقيضًا للصفحة العصر السابق . وأنبثق عن هذا اللقاء بينه والمعارضة ما يسمى لجنة التحقيق ذات المسار والحوادث التى تستهدف ولد عبد من قشورها.. وقد رافقت هذه الاحداث جميعا خطوات '' انطلاق وحوش الغابة '' وقد نسي الموريتانيون بصفة عامة والمعارضة بصفة خاصة أن ولد الغزواني هو أحد أركان ولد عبد العزيز وأن هو المدرسة الفنية .. وقد حددا معا الأعداء بثلاثة هم ولد بوعماتووحزب التواصل والمعارضة . وأما المعارضة فقد أنتهت مشكلتهم برحلة الصلح العمياء والدليل على هذا الكلام الذى سبق أن قلته مرات هولجنة التحقيق فهي ذاتها التى تؤكد مشروع هذا المخطط الذي كانت السلطة الجديدة تناور به أو تلاعب به الأطراف . ولكن السحر لا ينقلب على الساحر فى محاولة تفكيك الأقواس ، ومحاولة تنصيصها . وكان هذا كله يحدث للمرة الاولى . ولكنها المرة التى لا تستطيع أن تميز خيط الدولة من خيوط الجماعات وأين يبدأ دور الدولة وأين ينتهي دور قوى المعارضة ( ولد بوعماتو) . ومن يتحكم فى بداية اللعبة لا يتحكم بالضرورة فى نهاياتها !
فتحت لجنة التحقيق ملفات وازنة ضد ولد عبد العزيز وكأنها لم تخلق أصلا لإتهامه بقدر ما خُلقت لتبرئته .. فإطلاق الشائعات وتسريبها من اللجنة شيء متعمد .. لتأخذ زخمها الإعلامي ويقوم من خلال ذلك القطيع بدوره حتى اذا ماعبرت - الشائعة- كل الأراضي .. تلبس الحقيقةحذاءها وتفند كل شيء .. وهكذا يصبح إسم ولد عبد العزيز مُحاط بضوء سماوي خالد !
يبقي هنا أن نقول أن ولد الغزواني شخص ذكي ، فهو يستطيع أن يتمايز عن غيره من الجنرالات بالأختفاء في الوقت المناسب وكأنه إمام المعتدلين .. فقد تعود على الاختفاء منذ البدء و حتى انه لم يستطع نزع هذه الصفة عنه وهو الرئيس . و يخطىء الكثيرون فى تحليل محال تعريفه .. فهو لم يأت للرئاسة من اجل تسيير أمور الدولة وإنما أتى في ظرف معين .. فقد تلبدت الأجواء هنا قبل تسلمه الكرسي بغيوم الأزمات السياسية الكبرى بين ولد عبد العزيز والمعارضة ولم يكن تراجع ولد عبد العزيز عن الترشح لمأمورية ثالثة إلا لإحساسه بالتعب والثقل السياسي وفي ظل الضغط العاتي لهذا المناخ كان ولد الغزواني حاضرا ليكمل المسيرة بصمت فهو الوحيد الذى له وجه واحد يمثل الاعتدال المستقيم بحق عند المعارضة .. يتواصل ..
القاظى مولاي أحمد