في هذه الأيام ينقسم الرأي العام الوطني إلى فسطاطين؛ فسطاط إيمان بالحق والعدالة، ينشد أصحابه العدل الذي هو أساس الملك ويساندون الحق الذي هو أبقى وأحق أن يتبع، وفسطاط تكذيب للواقع الذي هو ميلاد عهد جديد تتبلور ملامحه الآن، ويضيفون إلى التكذيب تبرير الجرم الذي لا سبيل إلى إنكار وقوعه بوقاحة تُحيِّرُ السَّوِي ويشيب لسماعها الفَتِيْ.
يكاد الكل يجمع على أن أغلب أبناء هذا الوطن أضناهم تيه التوظيف في وطنهم وقهرهم ظلم ذوي المسؤوليات ممن استرعاهم الله عليهم وحُرِموا نيل قوتهم من خيرات بلادهم التي يرونها تبدد كل يوم أمام أعينهم غصبا عنهم، يخرج عليهم صباحا أطفال لم يبلغوا الحلم في كل سيارة فاره، وفي المساء تلتحق الفُتيَّاتُ بالأطفال في مشهد من *السيبة* والعبث بالأموال العمومية؛ في ظرف يَكلُّ فيه العامل المجد والدارس المحقق والموظف المتزن دون أن يحصل أي منهم على قيمة وقود ما يركب هؤلاء من سيارات!، وإذا بسطنا الحديث قليلا نحو الأسواق والأبنية والعمارات؛ فحدث بحرقة ومرارة دون حصر أو إحاطة، فلقد بلغ السيل الزُّبى وتجاوز الرُّبى؛ بل أفرغ كل شيء طبيعي مما في سابق الدهر قد احتوى.
إن مما يعيد إلى الأذهان كل عمل له صلة بالفساد حتى وإن تقادم عهده؛ تلك السرقة الممنهجة التي تعرض لها البنك المركزي والتي يبدو أنها أكبر من مركز الاتهام وأكثر تشعبا مما هو متبادر، ولا يأتي دونها ما تعرضت له مباني الميزانية من اعتداء على السيادة الوطنية ومحاولات يائسة لطمس جرائم أدلتها جلية وإدانة أصحابها حتمية؛ تبعها للتأكيد على الخطورة والجرمية السطو على المحكمة العليا مكمن الهيبة والوقار بين المباني الحكومية!.
أي منا لا يتذكر ما أشيع من أخبار وأثير من لغط إبان تبديل الأوراق المالية الحالية بالسابقة؟؛ فلقد تحدث غير واحد من النواب عن إثراء لأشخاص بعينهم على حساب الدولة والمواطن، وقدموا لذلك أمثلة منها إبدال المليار القديم بالجديد! وكذلك تدوير الأوراق المسحوبة كي يحوز قيمتها تكرارا فلان ثم علان!.
إننا نعيش اليوم انكشافا لعمليات فساد لم يسبق لخيال شاعر تصورها ولم يبلغ بأي ساحر تكهنها، بددت الثروات ممن كانوا بالأمس لا مال لهم ولا وظيفة وبقدرة قادر تحولوا في يوم دون ليلته إلى أثرى أثرياء البلد والمنطقة، وهذا لعمري مما يشل الدماغ ويحول الشخص السليم إلى عدو لأوطانه ماقتا لهويته رافضا لمنبعه وانتمائه، وتزداد الحالة سوءا عندما يزداد علم الشخص العادي بأن أرض بلاده أعطاها من لا يملكها لمن لا يستحقها؛ سواء من أبناء الوطن المحسوبين عليه مجازا رغم سلبيتهم المتناهية في السفالة أو كان الموهوب له لا تربطه بالبلاد غير زيارة لم يكملها!!.
لقد عانت بلادنا كثيرا من تحكم المفسدين في مفاصلها فامتطوا السياسة لتخريبها وتحريف كل مسار حمل بصيص أمل إيجابي إلى نقيض المقصود، فصار التعليم هداما للتهذيب، وأصبح مجال الصحة قناة السرطنة الأولى وبوابة الموت المفاجئ الأسرع، ويومها كان الأمن مكمن الخوف ورافد الهلوسة والتخدير ومظلة البغاء والغمار والتزوير، لقد طُمس وجه الخير في هذه البلاد رغم التفاؤل الذي لم ينقطع، ورغم الطيبة التي تطبع هذا الشعب المسلم المسالم.
إنما نشاهده اليوم من تفاني المدافعين عن كل من ثبت فسادهم قبل إكمال اللجنة البرلمانية لما أنيط بها من عمل وتحقيق من شأنه أن يعيد للدولة هيبتها المسلوبة وكرامتها المهدورة قبل خيراتها ومقدراتها المنهوبة؛ لحري بنا أن نقف جميعا ضده من أجل إحقاق الحق ومؤازرة هذه التحقيقات بأكبر سند شعبي ممكن علَّنا نؤسس بذلك لمرحلة جديدة قوامها الأمانة أولا ومن أين لك هذا انتهاء وأخيرا بعد كل تكليف أو مأمورية، إن هؤلاء المدافعين المستميتين في الذود عن المفسدين الدافعين لهم أصلا إنما لبوا نداء أمعائهم بدل ضمائرهم، وغلبوا مصالح ضيقة ملفوفة بأغلفة الفساد على مصالح عامة ناصعة البياض ينتفع بخيرها العميم؛ الضعيف قبل القوي والقاصي قبل الداني.. وعلى كل القوى الحية الوقوف صفا واحدا إلى جانب إقامة العدل ودحر قوى الفساد وإرجاع الحقوق المسلوبة المكنوزة في قصور خالية من أي ساكن وأراضي زراعية لا تجد غير الطير مارًا والذئب عاويا، وسيارات مركونة للهوى والتباهي وحسابات بنكية أُخرجت من الدورة الاقتصادية؛ وسيرحل عنها سارقوها قبل الوصول إليها بعد استهلاك ما سلبوه دونها.
إننا في أمس الحاجة إلى أن نجد ذواتنا في عدالتنا ونبتهج بحكومتنا وقيادتنا ونكون قد طوينا صفحة السلطان الغشوم وفتنة الفساد و النهب التي لا يمكن أن تستمر أو تدوم.
عثمان جدو