مع ظهور وباء كورونا المستجد منذ أربعة أشهر، انكشفت عورات السياسات الاقتصادية للدول في بلدان المغرب العربي أمام شعوبها،
بسبب عجزها عن توفير الإمدادات لمواطنيها من وسائل تُعد من بديهيات الوقاية الصحية والعلاجية، كالكمّامات وأجهزة التنفس الاصطناعي والملابس الواقية من الميكروبات ووسائل التطهير والمبيدات وغيرها.
ويرى خبراء اقتصاديون وسياسيون مغاربيون أنّ تداعيات جائحة كورونا ستفرض على الحكومات المغاربية انتهاج سياسات تقشف قاسية على مواطنيها، بعد أن تنتهي الصيغ الحالية للعولمة الليبرالية بكارثةٍ دولية،لا سيما أنّ الجائحة كورونا أعادت بعثرة المسلمات اليقينية حول الدولة القطرية المغاربية في علاقتها التبعية التقليدية مع دول الإتحاد الأوروبي،والولايات المتحدة الأمريكية، وتبنيها الفكرالليبيرالي والنيوليبرالي (العولمة) كنهج أساسي في الاقتصاد، في ظل أزمة اقتصادية عالمية متفاقمة، ووجهت ضربة قاصمة للعولمة الرأسمالية الليبرالية المتوحشة، الأمر الذي يطرح معه مراجعة مفاهيمية واسعة، بما في ذلك مفهوم الدولة القطرية المغاربية ،والعودة إلى إحياء مشروع اتحاد المغرب العربي الكبير الذي سيمثل الجواب التاريخي الذي يمكن لهذه الدول المغاربية أن تقدمه لمواجهة تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية، بالاعتماد على مواردها ،وذلك على الرغم من العوائق التي تقف أمام هذا المشروع.
الاتحاد ضرورة تاريخية
يزيد من إعادة إحياء مشروع اتحاد المغرب العربي، أنَّ الاتحاد الأوروبي، ينظر إلى منطقة أوروبا الشرقية، بوصفها فضاءَ تَوَسُعِّهَ الطبيعي لديناميكيته الاقتصادية والتجارية التي تُمَكِّنُهَ من ضمان وسائل نجاحه في المنافسة الدولية مع التكتلات الإقتصادية العملاقة، أما منطقة المغرب العربي، فهو يريدها منطقة تابعة لنفوذه الجيواستراتيجي في البحر المتوسط عبر شراكات ثنائية مع بلدانه غير متكافئة، تَقِي رَفَاهِيَتَهُ من البؤس المادي والثقافي المتنامي في المغرب العربي الذي يعتبره خَزَانًا مُهِمًّا للهجرة غير الشرعية، ومَصَبًّا لخدماته وبضائعه بقصد تقوية هيمنته الإقتصادية، وبقصد توطيد هيمنته الثقافية.
إنَّ فكرةَ بناء المغرب العربي طُرِحَتْ ضمن سياق مرحلة الكفاح ضد الإستعمار الفرنسي من ناحيةٍ،وضمن سياقِ مرحلةِ ما بعد الإستقلال (1956 - 1975) التي هَيْمَنَتْ فيها «إيديولوجية النمو «أوْ بِالْأَحْرَى المشروع البرجوازي الوطني لباندونغ (نسبة إلى مؤتمر باندونغ الذي عقد في عام 1955) من ناحية أخرى.
ثم في 17 فيفري 1989، التقى الرؤساء الخمسة في قمة مغاربية في مراكش، حيث تمَّ التوقيع على معاهدة إنشاء اتحاد المغرب العربي، تجسيدا لتطلعات الشعوب المغاربية في «إقامة اتحاد بينها يعزّز ما يربطها من علاقات، ويتيح لها السبل الملائمة لتسير تدريجيا نحو تحقيق اندماج أشمل فيما بينها». وفتحت تلك القمة التأسيسية مجالا لإبرام حوالي 37 معاهدة، تتعلق بمجالات مختلفة، وتكرس إنشاء سوق مغاربية، واتحاد جمركي، وإلغاءً للحواجز، وفتحا للحدود للأفراد والبضائع،كما تم الشروع في إنشاء هياكل مغاربية تعنى بالاقتصاد والمال والتعليم.. إلخ.وظلت أغلب هذه الاتفاقات حبرًا على ورق،وتم تجميد الهياكل المغاربية المرتبطة أساسًا بمجلس الرئاسة الذي لم يُعقد منذ 1994، علما أنه الهيئة العليا الوحيدة التي تمتلك حق القرار.
وأمام إخفاق مؤسسات اتحاد المغرب العربي الذي تَشَكَّلَ عقب معاهدة مراكش في 17 فيفري 1989،لأسبابٍ عديدةٍ ومتنوعةٍ، منها الخلافات السياسية والإيديولوجية والجيواقتصادية بين مختلف مُكَوِّنَاتِ المغرب العربي،ومنها إنفجار الأزمة الجزائرية وإسقاطاتها المدمرة، والحظر الجوي الذي فُرِضَ على ليبيا من طرف النظام الدولي الجديد بإيعازٍ قويٍ من الولايات المتحدة لعزلها عن باقي العالم في عام 1992،وعَجْزِ اتحاد المغرب العربي عن تقديمِ مشروعٍ يُحَدِّدُ سياسة مشتركة أو متبادلة بين الدول حول موضوع الشراكة مع دول الاتحاد الأوروبي،وَضَعَتْ مجموعة بروكسل استراتيجيتها للتعاون مع الدول المغاربية على أساس التعاون الثنائي. وكانت اتفاقيات الشراكة الموقعة مع تونس والمغرب، ثم لاحقًا مع الجزائر قد تَمَّ التفاوض عليها كل على حدَّةٍ،ولم يَحْدُثْ أيَّ تشاورٍ أو تنسيقٍ بهذا الشأنِ بين الأطراف المغاربية.
المعوقات السياسية لتعثر بناء الاتحاد المغاربي
إنَّ الاسْتِعْصَاءَ في بناء الاتحاد المغاربي، هو الذي يحملنا على معاودة طرح مجمل الأسئلة الحاسمة التي استقطبتْ و لا تزال اهتمام النخب المغاربية،ألا وهي، لماذا بقي اتحاد المغرب العربي يراوح مكانه منذ حوالي أكثرعقدين من الزمن؟ هل يُعْزَى التعثّروالركود الذي شهده العمل المغاربي المشترك إلى الأزمات السياسية الظرفية التي عرفتها المنطقة خلال عقد التسعينيات من القرن العشرين،وإلى الخلاف الجزائري- المغربي المزمن حول قضية الصحراء، أم يُعْزَى إلى طبيعة الإشكاليات التي تواجهها اقتصاديات و مجتمعات بلدان المغرب العربي، والتي لم تكن لتسمح لها بإقامة منطقة للتبادل الحرّ، فضلاً عن إقامة سوق سوق مغاربية مشتركة؟ولماذا أخفقت المبادرات و المساعي التي بُذِلَتْ منذ تَعَطُلِ مسيرة الاتحاد(1995)على الآن في حَلْحَلَةِ الْوَضْعِ؟ و لماذا لا تحفزّ المعضلات الاقتصادية،والتضخم المفجع في حجم المديونية،واتساع الفجوة الغذائية،واستفحال ظاهرة البطالة،التي تعاني منها المجموعة المغاربية ودوائر صنع القرار،على العودة إلى الرشد؟ ولماذا نحجت بعض البلدان المغاربية والعربية في إبرام اتفاقيات شراكة مع الاتحاد الأوروبي لإقامة منطقة «أورو –متوسطية» للتبادل الحرّ، في حين أخفقتْ، إلى حدِّ الآن،في إقامة منطقة مماثلة على الصعيد المغاربي، أو على صعيد المنطقة العربية، منطقة يخضع إنجازها لأجندة واضحة وملزمة على غرار المنطقة الأورو-المتوسطية؟
تعثر القطار المغاربي مع بداية الأزمة الجزائرية،وتفجر أزمة لوكربي بين ليبيا وكل من الولايات المتحدة وبريطانيا والتي تطورت إلى فرض عقوبات دولية على ليبيا في عام 1992، بسبب انكفاء الأنظمة على أنفسها لحل مشاكلها الداخلية، بدءًا من موريتانيا الغارقة في همومها السياسية والاقتصادية، مرورًا بالجزائر التي تواجه حربًا أهلية طاحنة،وانتهاء بليبيا التي تطاردها أزمة لوكربي، والمغرب الذي ينشغل بأمور منها قضية الصحراء وأثرها المباشر في احتدام صراع المحاور الإقليمية بين المغرب والجزائر والموقع الذي احتلته في استراتيجية التطويق والمحاصرة لدى كل من النظامين.
وتُعَدُّ الأزمة الليبية من أبرز التحدّيات الإقليمية التي تواجه إعادة إحياء اتحاد المغرب العربي، بسبب التدخل العسكري التركي المنحاز لحكومة الوفاق بقيادة فايزالسراج الذي وقع الاتفاقية الأمنية والعسكرية مع رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان في نهاية نوفمبر 2019،الأمر الذي ستكون له تداعيات وتهديدات حقيقية على دول الجوارالمغاربية، وفي مقدمتها الجزائر،بوصفها من أكثر الدول المغاربية التي تواجه الإرهاب ومافيات تهريب السلاح و البشر في منطقة الصحراء الكبرى. ومع تصاعد التطورات على الساحة الليبية وتداعياتها على دول الجوار، وما تمثله من تهديد لهذه الدول وشعوبها، فإنَّ مواقف هذه الدول تظل منفردة، متسمة بالعجز والاكتفاء بالمراقبة، في غياب موقف موحد ورؤية تنسيقية مفترضة من خلال الاتحاد المغاربي.والسؤال الخطير هو هل إِنَّ مشروعَ الاتحاد المغاربي مَشْرُوعٌ طُوبَاوِيٌ يتعذّر إنجازه شأنه شأن مشاريع الجامعة العربية، كمشروع بناء منطقة عربية حرّة، ومشروع السوق العربية المشتركة؟
المعوقات الاقتصادية لتعثّر بناء الاتحاد المغاربي
رغم إبرام العديد من الاتفاقيات الثنائية، ظلت التبادلات التجارية بين البلدان المغاربية ضعيفة جدًّا، وهي غير مستقرة، وغير منتظمة. إنَّها تابعة للتقلبات السياسية.وعندما تمَّ توقيع اتفاق اتحاد المغرب العربي في 17شباط/فبراير 1989، لم تتجاوزالعلاقات التجارية البينية نسبة 3 %، في حين أنَّه في أوروبا،عندما تمَّ توقيع معاهدة روما في عام 1957،كانت المبادلات التجارية بين الدول الست المؤسسة للجماعة الاقتصادية الأوروبية تمثل 40 % ( اليوم حوالي 40 %). وهذه مفارقة كبيرة.
يقدرالخبراء تكلفة عدم بناء اتحاد المغرب العربي من خلال خسائراقتصاديات البلدان المغاربية بسبب عدم اندماجها والمضي في بناء هيكل اتحادها بما بين 3 % إلى 5 % من الناتج الخام الداخلي للبلدان الخمسة أي ما يناهز10عشرة مليارات دولارسنويًا، بحسب تقارير اللجنة الاقتصادية لأفريقيا، إذْ تعتبر اليوم المنطقة المغاربية الأضعف على مستوى القارة الأفريقية من حيث التجارة البينية التي لا تتجاوز 2 % من حجم مبادلاتها الخارجية، بينما يصل المعدل إفريقيا إلى16 %،حسب إحصائيات المنظمة العالمية للتجارة حول الاتحاد الأفريقي.
يرى مراقبون في المنطقة أنَّه صار ضروريًا أكثر من أي وقت مضى،على شعوب المنطقة المغاربية، وقيادات دولها، التفكير في تنشيط هياكلها المجمدة، مراعاة منها لطموحات أجيال تعاقبت، وتماشيًا مع التحديات العالمية، ومسايرة لمنطق التكتل، الذي صارت ضرورة وفريضة. فشعوب المغرب العربي لها من التجانس والتقارب ما يؤهلها لما وصلت إليه أوروبا المختلفة لغويًا ودينيًا. فشيوع اللغة الواحدة، والدين والمذهب الواحد، إضافة إلى التواصل الجغرافي، ووجود ثروات طبيعية كبيرة، كلها عناصر أساسية لتكوين جسم إقليمي جغراسياسي يتمتع باحترام العالم وتقديره.
توفيق المديني