اذا جاز التلخيص إنطلاقا من المنظور والرؤية الواقعية لهذا البلد من خلال
المقارنة بين أوجه التشابه والتماثل لسياسات الأنظمة المتعاقبة على السلطة منذ الفترة (1978 حتى يومنا هذا ) ، نجد أن هذه القراءة التاريخية لسياسات تلك الأنظمة تستدعي منا إستحضار المواقف والأفعال وردود الأفعال ليربط حاضر الفيئات التي تقود العملية السياسية بماضيها تحت إشراف من اليد الإستعمارية التي يستمد منها هرم السلطة القوة ، هذا من جهة وتوجيهها من جهة أخرى من سياسيين دخلوا العملية السياسية بلاخبرة سياسية ورجال دين لاعلاقة لهم بالسياسة ومثقفين غلبت الروح الإنتهازية على مواقفهم ... ليربط هؤلاء جميعا بأسلافهم .
ولعل هذا مايؤكد تطابق الحالات السياسية في المواقف والأفعال خلال تلك الفترات ، فشعارات سياسات تلك الأنظمة هي نفسها اليوم والداعمون والمتعاونون معها اليوم هم أسلاف الأمس وأحفادهم ، والوهم أو الأوهام التي يجري الترويج لها لم تغير شيئا لافي الأهداف ولا الغايات والخصم المفترض هو نفسه وهما كان أو حقيقة .
والمتعاقبون على السلطة من نفس المؤسسة ذاتها الذين كانوا بالماضي القريب ضباطا يديرون كتائب عسكرية ويصدرون الأوامر للجنود بإعتبار أن صيفاتهم تخدم الخدمة العسكرية ، حيث (شدة الغباء والسذاجة) حتى لايتم التمييز بين ماهو خاطئ وماهو صائب لضمان تنفيذ تلك الأوامر التي يتلقونها بغض النظر عن خلفيات نتائجها .
فهؤلاء الذي كانوا بالأمس "لايفقهون إلا لغة الرصاص" أصبحوا اليوم متربعين على هرم السلطة قادة وسياسيين مخضرمين وأصحاب رؤى ,كل هذه الصفات خولوها لأنفسهم دون إستشارة أحد.
والغريب والمحزن والمخجل في الأمر أن هذه الجماعة- هي ذاتها التي أحدثت تلك التغييرات التي طالت رأس السلطة صيف 2005 ، فعلى الرغم من الرهانات لم تذهب الإصلاحات بعيدا في إتجاه إنجاز مقاصدها وتأسيس الحكم المدني والقطيعة مع النزعة العسكرية ، فكل ماحصل هو الإنقلاب مجددا على الشرعية والعودة لنقطة البداية وخرق الوعود والإلتزامات التي تم الوعد بها والسعي إليها وقد حدث كل هذا لأسباب لاتتعلق بالآليات القانونية ، بل مردها المؤثرات السياسية والإجتماعية التي تدخل فيها أدوات داخلية هي المسؤولة عن ( نشر الفوضى والجريمة المتفشية والزعزعة الأمنية والصراعات السياسية ) لتتدخل تلك المؤسسة فيها ، وكل ذلك كان مدبرا وعن نية محكمة من أجل السيطرة على السلطة بحجة أن النظام المدني ليس قادرا على القيادة ، بمعنى آخر أكثرضبابية من خلال المفهوم والإدراك الحقيقي للواجهة الخلفية أنه لايخدم مصالحهم الخاصة.
"فخفافيش الظلام" هذه هي التي وطنت ( الجهل والفقر والتخلف وسدت الطريق في وجه التطور والإنفتاح على الديمقراطية والتغيير وهي التي رسخت الفساد المالي والإداري والرشوة والوساطة وإستقوت القبيلة بموجبها وتجذرت في النسيج المركب للمجتمع الموريتاني ) وبالمقابل ضمرت الدولة وضعف الولاء لها ولمؤسساتها , ومن اللافت للنظر أن هذه الظاهرة في تصاعد مضطرد ، وحين يضعف عمود الدولة ويطاله السقم تستشري الممارسات والسلوكيات المنفلتة من سلطة القانون وهذا هوما حصل في موريتانيا.
فالكل يعلم حجم الفساد في مختلف القطاعات الحيوية للدولة , حيث يحتل القطاع الإقتصادي النسبة الكبرى من الفساد التي تتمثل في الصفقات المشبوهة من طرف سماسرة المال العام لكونهم يسيطرون على المراكز الحيوية للقطاع الذي يعتبر النواة النابضة والحيوية للبلد.
ولم تكن القطاعات الخدمية الأخرى بأحسن حال ، فالمغالاة في طلب المال العام تلعب دورا جوهريا في إستنزاف الأموال الطائلة والتحايل عليها بهذا الشكل المشين دون أن تكون هنالك أجهزة رقابية من طرف الدولة .
هذا هو الحال في موريتانيا ومؤسساتها الفاسدة كليا ولاأدل على ذلك من مظاهر تحطيم الدولة ومؤسساتها وإنعاش التفرقة العنصرية وإنغراسها في المجتمع الموريتاني وتأسيس هيكلة البلاد على هذه المفاهيم .
ولعل هذا هو حصاد ما أوصلتنا إليه تلك الخفافيش- أصحاب الرؤى الطامسة للحاضر المظلمة للمستقبل لعجزها الناتج عن جهلها وعدم إدراكها لمؤشراته.
لقد كان إنقلاب 1978 جائرا في حق الوطن والمواطنين فقدت موريتانيا بسببه ''الأب والمؤسس والقائد'' وضاع منها ذلك الحلم الذي راود الجميع ألا وهو دولة "البيظان الكبرى" الذي كان قائدنا يطمح إليه وأوافقه ''أنا'' في ذلك لكونهم جزءا منا وإمتداد لنا ، فقد تم بموجب ذلك الإنقلاب فتح الباب لكل من إرتدى البذلة العسكرية التي لم تقدم لهذا البلد الجميل سوى المساوئ.
وعلاوة على ماسبق يأتي في بداية الأمرالترويج لولاية ثالثة ثم التراجع عنها وتقديم "الدعم" لمرشح واحد "ينتمي للمؤسسة ذاتها" وتقام إنتخابات تشريعية ورئاسية تصوغ (الحق على أنه باطل والباطل على أنه حق) من منظورالإعلام المروج للنزاهة المفقودة في الأصل والسبب بسيط يكمن في أن المعايير والمبادئ الدولية والبيئة الصالحة لها غير موجودة ( كالحق في المشاركة دون تمييز ، والشفافية والإنفتاح والقابلية للمساءلة الإنتخابية وخضوع العمليات السياسية للسلطة القانونية والتكافؤ في المنافسة والمراقبة المستقلة والمحايدة للإنتخابات) وهذه الشروط غير متوفرة في موريتانيا.
ولعل ذلك يرجع إلى ظاهرة الحزب الحاكم وهيمنته التي تعيق تطور الحياة السياسية بشكل عام وممنهج ، حيث يتدخل في الإنتخابات ويؤثر في نزاهتها كما تتخذ أجهزة الدولة موقفا متساهلا إزاء عمليات شراء الأصوات وتمرير الإستثناءات والمعاملات غير القانونية لصالح بعض المرشحين ، وهذا يتقاطع مع مؤشر النزاهة التي يدعيها النظام .
و في هذا الصدد والسياق وإنطلاقا من هذا وذاك نقول إن هذه هي الصورة النمطية التي توارثتها أنظمتنا السياسية الفاشلة بعد ذلك الإنقلاب الجائر في حق الدولة والوطن ليبرهنوا لنا أنهم فعلا أسلاف الأمس وأحفادهم تجمعهم عوامل مشتركة شتى ( كالتخلف والجهل والتبعية )، أسماء لنفس المسمى ومترادفات لنفس المفاهيم ووجوها لنفس العملة
فعند الحديث عن موريتانيا ينتهي الحديث بهذه الخلاصة المرة للأسف الشديد والحزن العميق ، هرم بلا رأس لكونه يفتقد لميكانيزما القيادة سياسة بلا ساسة ، قطاعات إقتصادية منهوشة وخدمية تفتقد للدينامية ومثقفون إنتهازيون وإدارة بلا إداريين ووظائف بلا موظفيين ووطن بلا مواطنين ومجتمع منافق حتى النخاع .
هذه هي الواجهة الخلفية لموريتانيا البلد المنهك الذي ألفناه بهذه الصورة حتى يومنا هذا منذ أن بدأنا نرتب أولى حروفنا الأبجدية .
لبات ولد الفاظل.
[email protected]