بسم الله الرحمن الرحيم
ملخلص لأبرز ماتمت إثارته من إشكالات في البحث الذي تقدمت به تحت عنوان تنفيذ الأحكام الصادرة في الميدان الجزائي ( أهم الإشكالات المثارة ) وذلك في الأيام العلمية المنظمة من طرف المحكمة العليا في الفترة مابين 28 و29 /07/2015 .
* * *
مما لاشك فيه أن وضع القواعد القانونية الخاصة بتحديد الجرائم وتقرير ما يقابلها من عقوبات أو تدابير أمن، ووضع الأسس والمبادئ العامة التي تحكم المنظومة العقابية تلك، وإن كان يسعى من ورائه المشرع الموريتاني كغيره من التشريعات الأخرى، إلى تحقيق غاية أساسية ومهمة تتمثل في صيانة أمن المجتمع واستقراره، إلا أن بلوغ الأغراض المتوخاة من وراء ذلك لا يكفي للوصول إليه تحديد الجرائم ووضع العقوبات المترتبة عليها لوحده، بل لا بد من تحديد الوسائل والإجراءات الضرورية الكفيلة بتطبيقه متمثلة في قانون الإجراءات الجنائية الذي ينقل القانون الجنائي من حالة السكون إلى الحركة ومن دائرة التجريد إلى دائرة التطبيق العملي، أو بتعبير آخر مجموعة القواعد والإجراءات اللازمة لتنفيذ ما نص عليه القانون الجنائي وغيره من عقوبات وترتيبات وماحكمت به مختلف المحاكم المختصة.
صحيح أن قانون الإجراءات الجنائية فيما تضمنه من ترتيبات قد جاء استجابة للحاجة الضرورية والملحة لمواكبة الدعوى العمومية المترتبة عن مخالفة قواعد القانون الجنائي وغيره ، إلا أن تلك المواكبة لم تتوقف عند مجرد صدور الحكم وإنما تجاوزتها إلى مرحلة تنفيذ العقوبات المحكوم بها، وما يتطلبه تنفيذها من قواعد وإجراءات تأخذ في عين الاعتبار حقوق ومصالح كل طرف من أطراف التنفيذ، وتحدد اختصاصات جميع المتدخلين فيها وبغض النظر عن طبيعة ونوع كل جهة متدخلة سواء كانت قضائية أو إدارية، فعلى المستوى الإداري فان الإدارة العامة للسجون بوزارة العدل تتولى الإشراف الإداري على تنفيذ العقوبات داخل المؤسسات العقابية، أما على المستوى القضائي فإن الجهات المتدخلة في عملية التنفيذ قد حصرها المشرع الموريتاني في ثلاث جهات هي النيابة العامة والمحكمة مصدرة الحكم محل التنفيذ وقاضي تنفيذ العقوبات، حيث خول النيابة العامة مهمة تنفيذ أحكام وقرارات وأوامر القضاء وأعطاها الحق في اللجوء إلى القوة العمومية والاستعانة بها من أجل ضمان ذلك التنفيذ، إضافة إلى مراقبة المؤسسات العقابية وتفقد وسائل الأمن والنظافة بداخلها في حين منح قاضى تنفيذ العقوبات جملة من الاختصاصات المتمحورة أساسا حول متابعة مدى تطبيق النصوص المتعلقة بتنظيم وتسيير مؤسسات السجون في شأن قانونية الاعتقال وحقوق السجناء ومراقبة سلامة إجراءات التأديب وتقديم الاقتراحات حول العفو والحرية المشروطة وفي سبيل ذلك يقوم بزيارة السجن مرة على الأقل كل شهر ينهيها بإعداد تقرير موجه إلى وزير العدل يبين فيه ما أسفرت عنه تلك الزيارة من ملاحظات، أما المحاكم مصدرة الأحكام محل التنفيذ فقد خولها المشرع الاختصاص في البت في الأحداث العارضة المتعلقة بتنفيذ أحكامها وإصلاح الأغلاط المادية التي اشتملت عليها تلك الأحكام.
على أن المشرع الموريتاني وإن كان قد حدد لكل جهة حدود اختصاصها بشكل يمنع تدخل أي منها في الاختصاصات الممنوحة للجهة الأخرى فإن الواقع العملي للتنفيذ في البلد ما زال بعيدا كل البعد عن تحقيق ما تم رسمه من نتائج وأهداف للسياسة العقابية، وذلك بسبب ما تعانيه المنظومة العقابية من اختلالات منها ما هو تشريعي يعود لبعض النصوص المتعلقة بالتنفيذ نفسه، ومنها ما يتعلق بالبنية التحتية ممثلة في المؤسسات العقابية وما تعانيه من اختلالات بنيوية سواء تعلق الأمر بالموارد المالية أو التجهيزات أو المصادر البشرية أو التصاميم الفنية للمؤسسات السجنية، إذ بين العوائق التشريعية ونواقص وعيوب المؤسسات العقابية يثور السؤال عن نوع وطبيعة ما وضعه المشرع الموريتاني من قواعد وإجراءات تتعلق بتنفيذ الأحكام الصادرة في الميدان الجزائي وعن واقع التنفيذ العقابي في البلد ومستقبله؟ وأهداف السياسة العقابية على المستوى الوطني ؟ الرامية بالأساس إلى تحقيق الجزاء الجنائي لأغراضه المرتبطة أساسا بحماية النظام والمصلحة الاجتماعيين، ومنع المجرم من العودة إلى الإجرام بل والقضاء على الخطورة الإجرامية لديه.
بيد أن تحديد أهداف السياسة العقابية لا يكفي لوحده ، وإنما يتعين لبلوغ تلك الأهداف إيجاد إطار تشريعي خال من أية شوائب قد تعترض سبيل بلوغ تلك الأغراض إضافة إلى توفير الظروف الملائمة لتطبيق ما تضمنه ذلك الإطار والتي تأتي على رأسها البنية التحتية العقابية ممثلة في المؤسسات السجنية، إذ بين ثنائيتي التشريع والتطبيق الوطنيين تتحد الاختلالات التي يعاني منها تنفيذ الأحكام الصادرة في الميدان الجزائي وما يعترضه من صعوبات وعوائق، يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
أولا: إن تحقيق الأهداف المتوخاة من خلال السياسة الجنائية بصورة عامة والعقابية منها على وجه الخصوص، يتطلب وجود مؤسسات عقابية قادرة على تحقيق تلك الأهداف بحيث تتمتع بالشروط والمواصفات اللازمة لذلك وهو ما تفتقر إليه المؤسسات العقابية الوطنية.
ثانيا: إن المشرع الموريتاني حينما حدد مسطرة الإكراه البدني طريقا لتنفيذ الأحكام الجزائية الصادر بغرامات أو تعويضات أو مصاريف فإن هذا التنفيذ وإن كان ممكن ومجد بالنسبة للأشخاص الطبيعية إلا أنه غير ممكن بالنسبة للأشخاص المعنوية نظرا لطبيعة الإكراه البدني ولكونه يتطلب وجود محكوم عليه يمكن إيداعه في السجن.
ثالثا: إن النصوص القانونية المتعلقة بالسجون تعاني من العديد من النواقص تحول دون الاستجابة لما يفرضه العصر من مستجدات وتتضمنه الترسانة القانونية الوطنية من شروط يتعين التقيد بها وظروف تجب المحافظة عليها ضمانا لحقوق السجين في المعاملة الإنسانية اللائقة مع عدم تفعيل ما تضمنه المرسوم رقم: 98/078 من لجان مكلفة بالمراقبة، والإصلاح، والسجون والتي لم ترى النور إلى حد الساعة ، تلك النواقص وغيرها تفرض بإلحاح ضرورة مراجعة تلك النصوص .
رابعا: إن برهنة المحكوم عليه على حسن سلوكه وتقديمه ضمانات كافية لدمجه في المجتمع بوصفها شروط لا غنى عنها لحصوله على الحرية المشروطة تتطلب وجود أوراش داخل المؤسسة العقابية تعمل من خلال برامج معدة من أجل رعاية وإصلاح ودمج المحكوم عليه، إذ من خلال تقييم نتائج تلك الأوراش يتحدد ما إذا كان المحكوم عليه قد توفرت فيه الشروط اللازمة للحصول على الحرية المشروطة أم لا، وهو للأسف الشديد ما تفتقر إليه المؤسسات العقابية الوطنية.
خامسا: على الرغم من محدودية الاختصاصات التي منحها المشرع الموريتاني لقاضي تنفيذ العقوبات إلا أن تلك الاختصاصات مع ذلك تبقى عديمة الجدوى في ظل عدم تمكينه من فرض تطبيقها، ذلك أن المشرع لم يرتب جزاء على ما يقوم بضبطه قاضي تنفيذ العقوبات من خروقات تتعلق بعدم مطابقة التنفيذ للنظم والإجراءات القانونية المنصوص عليها، ولعل ذلك من ضمن الأسباب التي أدت بالقائمين على السياسة العقابية إلى عدم تفعيل مؤسسة قاضي تنفيذ العقوبات إضافة إلى أسباب أخرى تتعلق بنوع وطبيعة الاختصاصات الممنوحة له من جهة وواقع المؤسسات العقابية من جهة أخرى
والله من وراء القصد
القاضي : عبد الله أندكجلي