لا أعرف حقيقة من أين أبدأ هذا الموضوع المتشابك.....!
أأبدأ من أزمة "الحراطين" وما يعانونه من تهميش بيِّـنٍ؟ أم إحقاق الحق بأن مجتمع البيضان ليسوا كلهم ــ كما يتوهم البعض ــ في جنات عدن في هذه الحياة الدنيا، وأنهم وإخوتهم الحراطين في خندق واحد؟، أم تُراني أصب غضبي على الذين يتاجرون بقضية العبودية والعنصرية من جهة، ويتكلمون بلسان قومٍ ما هم منهم، ويزعمون أنهم يتحدثون عنهم؟، أم تُراني أصب غضبا ونارا ذات لهب على ساسة ما غيروا واقعا بات مستفحلاً ونحن نشاهد يومياَّ أفواج حملة الشهادات يتسكعون في الطرقات، بين مهاجر أو مغامر في معامع الحياة المظلمة لا يكاد يهتدي، ويلعن الواقع البائس واليوم الذي قرر فيه أن يكون متعلماً؟.
بيد أني لا أحب أن أفوت مناسبة سعيدة كمناسبة مسيرة "المواطنة ضد خطاب الكراهية والعنصرية" التي انتظرتها طويلاً، وأنتظر أن يتبعها من الإجراءات الفعلية ما يدعم فكرتها. ولهذا قررت من خلال هذا المقال المتواضع أن أبرز عددا من النقاط التي من شأنها أن تغير من الواقع حسب نظري، خاصة وأننا اليوم نعيش حالة من المصارحة والمصالحة مع الذات الجمعية في ظل القيادة الوطنية القائمة وعلى رأسها السيد رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز، حيث عبر في جو احتفالي بهيج صحبة أغلب الأحزاب السياسية الوطنية عن تأكيد الشعب الموريتاني أن الوحدة الوطنية خيار شعبنا العظيم وزعامته.
لقد قطعت موريتانيا عبر تاريخها أشواطا كبيرة في مجال محاربة الرق وآثاره، ولديها اليوم ترسانة قانونية ضخمة لمواجهة ظاهرة العبودية وآثارها، ويكفي موريتانيا فخرا أنها اليوم تناقش هذه المواضيع في العلن لا خلف الكواليس، ولكنها لا تدعي أن مشكلة العبودية قد انتهت بشكل كامل فهناك آثارها ومنها ظاهرة العنصرية.
ومن هنا علينا أن نأخذ المشرط صراحة لنناقش هذه النقطة الهامة جدا..!
إن مشكلة العنصرية في موريتانيا باتت أمراً ملاحظا، خاصة في ظل تنامي خطابات الكراهية والشرائحية التي ربما تمثل أجندات خارجية أكثر مما تعكس واقعا معيشاً، وتنبغي مواجهة هذه الظاهرة بحزم تام وحكمة بالغة من جميع الأطراف والأطياف، وأن لا نترك المجال لسرطان الفرقة أن يتفشى فينا ونحن نتفرج لأن الجميع مسئول إذا تركنا لغيرنا حل مشاكلنا.
صحيح أن مجتمع "الحراطين" يعاني من العديد من المشاكل المتعلقة بالتهميش وتدني مستوى التعليم والتطوير والتكوين المستمرين، ولكن هل هي حالة خاصة بمجتمع الحراطين أم أنها أزمة عامة تشمل مكونات المجتمع الأخرى؟ وما هي أسباب هذه الظاهرة؟.
كلنا يعلم أن الإحساس بالتهميش والغبن ليس متعلقا بشريحة واحدة من شرائح مجتمعنا الموريتاني فهي حالة عامة في كل مكوناته سواء البيظان أو الحراطين أو الزنوج فالجميع في المعاناة سواء، والحل الوحيد لهذه الظاهرة هو تحقيق العدالة والمساواة في تقسيم الثروات، وتطبيق القانون على كل إنسان في هذا البلد فالحق أحق أن يتَّبع. كما أن على الدولة متابعة قضايا التجمعات المحلية في القرى والأرياف وبث التعليم والتوعية فيها، لأن الجهل هو عدو الشعوب الأول والأخير.
وهو ما ركز عليه رئيس الجمهورية في خطابه أمام الشعب في المسيرة التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ موريتانيا كماًّ ولا حشدا، فالتعليم هو الحل الوحيد لمشاكل هذا البلد، ومن هنا نطالب الدولة الموريتانية بالقضاء على التعليم الخاص في المراحل الابتدائية والإعدادية، مما من شأنه التقليل من ملاحظة الفوارق بين أبناء هذا الشعب الواحد. مع توحيد الـزِّيْ المدرسي لكافة التلاميذ، فضلا عن تشديد الرقابة على هذه المراحل من التعليم، ومنح حوافز مالية وتكريمـية للممتازين فيها تلامذة ومدرسين، وفي المقابل أن تكون الدولة خصما قويا للمقصرين في المجال التربوي بدءً من لحظة العمل بهذا المقترح.
ومن المقترحات التي نظنها تخدم هذا المجال أن يقوم العلماء والخطباء في المساجد بالتركيز على أهمية الوحدة الوطنية و دور الإسلام في ترسيخ فكرة الدولة الموحدة والشعب الموحد.
كما نهيب بالفنانين جميعا إلى إعداد كم كبير من الأغاني التي تدعو إلى نبذ الكراهية والعنصرية بجميع اللغات الوطنية. ونطالب الإعلاميين من جهتهم بالمشاركة الفاعلة في توصيل أصوات كل من يخدم فكرة نبذ الكراهية والعنصرية من قريب أو بعيد وعبر الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة.
وعلى السلطات أيضا أن تباشر بنفسها مطالعة قضايا المجتمع وأن تقابلها بالجد والمثابرة والصراحة، وتتحدث إل شعبها بلا وسيط فمن سمع بآذان غيره فلن يسمع من الحق إلا ما يريد غيره، وقد لا يسمع شيئا من الحق أصلاً، لأن أصعب شيء هو سماع الحقيقة.
ومن جهة أخرى فإن على الجهات الرسمية أن تجابه مشكلة العنصرية بحلول جذرية من خلال التوظيف والتطوير، لا من خلال اجتذاب الأسماء التي تدعي التحدث باسم الحراطين ومنحها الأموال، في حين أن الحراطين أنفسهم لم يخولوهم الحديث باسمهم أبدا. وحتى لو سلمنا جدلا بأنهم خولوهم التكلم باسمهم فهل غيرت هذه الشخصيات واقع الحراطين منذ زمان مضى من الدعوات بتغيير مستواهم؟.
وهذا ما يُسمى المتاجرة بالقضايا وهو للأسف أمر بات منتشرا في السنوات الأخيرة، لذا يلزم الحذر التام.
ومن ناحية ثانية فإنني أسجل امتعاضي التام من عدم وجود موقف حازم من طرف العلماء والمثقفين والأساتذة والباحثين، لأن هذا يومهم وهذه ساعتهم فعليهم المشاركة بفاعلية مع منظمات المجتمع المدني التي لم نسمع لها هي الأخرى صوتا لولا إقدام رئيس الجمهورية بنفسه على تسيير مسيرة ضد العنصرية والكراهية ما استدعى أن تتبعه في ذلك حشود ضخمة من الشعب ممن تمكنوا من الحضور، فضلا عن الأحزاب السياسية الأخرى التي لم تدخر جهدا في المشاركة تعبيرا منها عن أهمية هذه اللحظة في تاريخ البلد.
ولكننا نسجل أن هذا المجهود خطوة هامة نرجو لها أن تتطور وتزداد...
وفي الأخير نشدد أنه على جميع مكونات المجتمع الموريتاني أن تعلم أن هذا الوطن لا يحتاج إلى القسمة، ولكنه يحتاجُ اللُّحمة، وأن القضايا العامة والخاصة تُساسُ بالحنكة والحكمة، وتتابع بعين البصر والبصيرة، وأننا جميعا في خندق واحد، وأننا أولا وأخيرا مجتمع مسلم مائة بالمائة يجمعنا دين واحد ومذهب واحد وأرض واحدة، وعلينا العمل المتواصل وتكثيف الجهود من أجل تجاوز المشاكل المحدقة بنا، فالسفينة التي تجمعنا هي هذا الوطن وعلينا صيانتها وأمنها جميعا، والله الموفق.
د. محمد عالي البربوشي