أكثر من ثمان وأربعين ساعة انقضت منذ الاشتباك الذي وقع بين دورية تابعة للجيش الموريتاني ومسلحين وصفتهم القيادة العامة لأركان الجيوش بأنهم "عنصر معادي متسلل في نقطة تقع بأقصى الشمال الشرقي من الحدود المالية الموريتانية"، ولم تعلن أي جهة حتى الآن مسؤوليتها عن الحادث، الأمر الذي أدى الى تضارب الأنباء والتحليلات والتخمينات بشأنه.
وإلى أن يتبين الخيط الابيض من الخط الاسود من حقيقة الاشتباك، وطبيعة طرفه الثاني المجهول حتى الأن، فإنه يمكننا في هذه العجالة قراءة بعض الاحتمالات، وتقديم رؤية تحليلية مقتضبة قد تساعد في فهم بعض حيثيات ما حصل وتداعياته المستقبلية.
وقبل الغوص في ثنايا الحادث المثير، والخوض في ماهية الطرف المجهول، فإنه يمكننا بداية وبداهة أن نحصر الأمر في ثلاثة احتمالات لا رابع لها: فإما أن الامر يتعلق بمسلحين تابعين لجماعة نصرة الاسلام والمسلمين (تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي)، أو مهربين، أو مسلحين من جماعة تنظيم الدولة الإسلامية في مالي، أما ما سوى ذلك فاحتمال مستبعد إلى درجة تفرض الإعراض عنه وتجاهله.
وهنا لا مندوحة أمامنا من محاولة قراءة استنباطية في الاحتمالات المطروحة، ومبررات كل واحد من الثلاثة ومؤشرات تعزيزه، وموانع ترجيحه.
فإذا سلمنا جدلا بالاحتمال الأول، والذي يفترض أن يكون الطرف المجهول في الاشتباك مقاتلون من جماعة نصرة الاسلام والمسلمين التابعة للقاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، (فصيل إمارة الصحراء بقيادة يحيى أبو الهمام)، فإن معطيات كثيرة تجعلنا نرجح أن الأمر قد يكون اشتباكا عرضيا مفاجئا للطرفين، وغير مقصود لذاته، ربما يكون سببه لقاء بالصدفة بين دورية الجيش الوطني ووحدة استطلاع أو مجموعة تابعة للتنظيم كان تجوب المنطقة ودخلت الحدود الموريتانية، وبالتالي يكون اشتباكا غير مقصود لذاته وقد لا يكون له ما بعده بالضرورة، فالمعطيات المتوفرة تنزع كلها إلى الاعتقاد أن ما حصل لم يكن هجوما مدبرا أو سعيا متعمدا من تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي لاستهداف الجيش الموريتاني، إذ الراجح أن المبررات التي دفعت تنظيم القاعدة إلى الكف عن استهداف موريتانيا والامتناع عن القيام بأي نشاط مسلح على أراضيها منذ نهاية عام 2011، ما تزال قائمة حتى الآن، ولا وجود لمؤشرات تشي بأن القاعدة قررت استهداف موريتانيا في هذه اللحظة، بل من غير الوارد أن يقدم التنظيم ـ دون سبب وجيه ـ على إدخال موريتانيا ضمن قائمة أهدافه الحالية، وبالتالي المغامرة بفتح جبهة جديدة عليه هذه المرة من موريتانيا، ومن جيش يعتبر أحد أقوى جيشين في تجمع قوة دول الساحل المشتركة، إلى جانب الجيش تشادي، ويتفوق عليه بأفضلية امتلاكه حدودا طويلة مشتركة مع مناطق انتشار مقاتلي التنظيم في شمال مالي، بخلاف القوات تشادية في مالي، التي انقطعت نهائيا عن أراضيها وباتت على بعد مئات أو آلاف الكيلومترات عن إمداداتها وقواعدها الخلفية، هذا في وقت يواجه فيه التنظيم مصاعب على جبهة القتال ضد القوات الفرنسية والدولية التي يحاربها في مالي منذ مطلع عام 2013.
ورغم أن بعض المحللين ووسائل الاعلام الدولية كإذاعة فرنسا الدولية حاولت الربط بين تعيين الجنرال الموريتاني حننا ولد حننا قائدا للقوات المشتركة لدول الساحل الخمس، وبين الاشتباك المذكور في شمال البلاد، على اعتبار أن تعيين ولد حننا يشكل خطوة متقدمة على طريق مشاركة موريتانيا في الحرب ضد الجماعات السلفية المسلحة في مالي، فاستوجبت ذلك ردا من هذا القبيل، إلا أنه يمكن القول هنا إن خطوة تعيين الجنرال حننا ليست أكثر أهمية ولا فاعلية من قرار موريتانيا نظريا المشاركة في تأسيس هذه القوة سنة 2017، والعمل على تجهيزها وجمع التمويل الدولي لها، ورغم ذلك لم تجد القاعدة في تلك الخطوة ما يدفعها إلى مهاجمة موريتانيا، وإنهاء حالة "المتاركة" الحذرة التي تسود العلاقة بينها وبين موريتانيا، فلا وجود للقوات الموريتانية اليوم على الأراضي المالية، بل إنه منذ انسحاب الجيش الموريتاني عام 2011 من شمال مالي لم يشارك اي جندي موريتاني في معركة على الأراضي المالية، وما يجرى الإعداد له حتى الآن هو تنفيذ جزء من خطة دول الساحل الخمس، يتعلق بتأمين الحدود بين مالي وموريتانيا.
إياد أغ غالي.. وموريتانيا
كما أن وجود "إياد أغ غالي" على رأس تنظيم جماعة نصرة الإسلام والمسلمين في مالي، يدفعنا إلى المضي قدما في استبعاد إمكانية تخطيط التنظيم للهجوم على موريتانيا في القوت الحالي، فالرجل منذ شرع في تأسيس جماعة أنصار الدين سنة 2011، وبدأ في التنسيق مع تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، قبل أن يبايعه لاحقا سنة 2017، كان حريصا على حث حلفائه على تجنب استهداف دول الجوار، خصوصا موريتانيا، لاعتبارات عديدة منها السعي لتحييد موريتانيا عن التحالفات العسكرية التي نشأت في المنطقة بهدف محاربته وجماعته، وتجنب مضايقة اللاجئين الأزواديين على الأراضي الموريتانية من طرف السلطات الموريتانية، هذا فضلا عن خبرة الرجل الكبيرة بالوضع في موريتانيا وطبيعة المجتمع الموريتاني، فقد عرف إياد أغ غالي نواكشوط ومدن الداخل الموريتاني حين احتضنته أيام كان قائدا ثوريا يساريا في تسعينيات القرن الماضي، كما عرفته مدن نواكشوط ونواذيبو وزويرات وبعض مدن الداخل الأخرى داعية وواعظا حين كان ينشط في جماعة الدعوة والتبليغ خلال العقد الماضي، واقام فترات طويلة في موريتانيا واحتك بالسكان وارتبط معهم بعلاقات وصداقات ما يزال يحتفظ بالكثير منها، فضلا عن كونه يمتلك رؤية للصراع في مالي أكثر محلية من باقي قادة القاعدة، ويؤمن بأن التركيز ينبغي أن يكون على من يسميهم القوات الغازية في مالي، وهو ما عبر عنه أكثر من مرة في خطاباته وإصداراته.
ينضاف إلى ذلك أن مكان الاشتباك وتوقيته يوحيان بأن الفاعل ـ إن كان قد خطط مسبقا للهجوم ـ لا يملك خبرة كبيرة في حرب العصابات، بخلاف مقاتلي تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، فالمنطقة التي شهدت الاشتباك في شمال البلاد مفتوحة ومكشوفة على نطاق واسع، وتوقيت الاشتباك كان صباحا، وهو ما يعني أن المهاجمين بعد انسحابهم سيبقون لوقت أطول في منطقة مكشوفة وتحت ضوء النهار، الأمر الذي يسهل رصدهم وملاحقتهم جوا، فلو أن الامر تعلق بمقاتلين على دراية بحرب العصابات لاختاروا وقتا ومكانا مناسبين، كأن يكون الهجوم ليلا أو خلال ساعات المساء بحيث يضيق الوقت أمام قوات الإمداد المتوقعة، عن ملاحقتهم وتعقبهم بسبب حلول الظلام، أو لاختاروا منطقة غير مكشوفة يسهل الاختفاء فيها بعد الانسحاب مباشرة.
لذلك يمكننا القول بترجيح فرضية أن القاعدة لم تقرر حتى الآن استهداف موريتانيا، وأن الاشتباك إن كان قد حصل مع مقاتليها فهو حادث عرضي ومعزول قد لا يترتب عليه أي تطور لاحق يعكر صفو حالة الهدوء السائدة على الجبهة معها، لكنه يبقى مجرد احتمال مفترض، إلى أن يثبت العكس.
مهربون غاضبون
الاحتمال الثاني وهو أن الامر يتعلق بمهربين كانوا يعبرون المنطقة، وهذا الاحتمال قد يكون واردا أكثر من غيره، نظرا لأن منطقة الشمال الموريتاني والحدود المالية المقابلة لها ظلت لسنوات طويلة مسرحا لعصابات تهريب المخدرات، قبل أن يُضيق الجيش الموريتاني الخناق عليها باستحداث مناطق عسكرية مغلقة وتسيير دوريات منتظمة لرصد التحركات وملاحقة المشبوهين، وهو ما أسفر عن مصادرة عدة شحنات من المخدرات واعتقال أو قتل مهربيها، وبالتالي يمكن القول إن الاشتباك قد يكون وقع بالصدفة مع عاصبة تسعى لتأمين شحنة مخدرات بحوزتها، أو انتقاما منها ومحاولة ثأر لمصادرة الجيش الموريتاني شحنة ما في وقت سابق، وكما هو معلوم فأن عصابات المخدرات تعتمد في الغالب الأعم استراتيجية الانتقام القاسي، سبيلا إلى ترهيب الخصوم ومنعهم من الاستمرار في ملاحقتها أو السعي لعرقلة نشاطاتها.
تنظيم الدولة الإسلامية.. التمدد
ثالث الاحتمالات وقد لا يكون واردا لدى الكثير من المحللين والمهتمين بشؤون المنطقة، لكن إهماله لا يشي بخبرة كبيرة بالمنطقة ودراية بفسيفساء المجموعات المسلحة فيها، ويعتلق الامر بإمكانية قيام مقاتلين من تنظيم الدولة الاسلامية في مالي بقيادة "عدنان أبو الوليد الصحراوي"، بالهجوم على الدورية الموريتانية، وهنا لابد من التذكير بأن مقاتلي تنظيم الدولة في مالي محصورون أساسا في منطقة الحدود بين مالي والنيجر وبركنفاصو، وينتمون محليا في غالبهم الأعم لقبائل الفلان في النيجر، وبعض القبائل العربية الموجودة على الحدود بين مالي والنيجر فضلا عن بعض المقاتلين من الطوارق المنحدرين من منيكا واربنده وغاو، ولا وجود لهم في المنطقة الغربية من أزواد المحاذية لموريتانيا، حيث ينشط عادة مقاتلون إمارة الصحراء التابعة لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين، غير أن وجود مقاتلين في تنظيم الدولة ينحدرون من إقليم الصحراء الغربية يجعل احتمال عبورهم المنطقة واشتباكهم مع الدورية الموريتانية واردا، كما أن احتمال إرسال "أبو الوليد الصحراوي" مقاتلين لتنفيذ هجوم داخل موريتانا، سعيا إلى لفت الانتباه المركز عليه في منطقة الحدود مع النيجر وتشتيت جهود محاربته في مناطق نشاطه، فضلا عن أن الهجوم سيكون استهدافا لبلد مشارك في قوات الساحل المشتركة، يرى "أبو الوليد " أن القاعدة ـ خصم تنظيم الدولة ـ ترتكب خطأ فادحا بتجنبها استهدافه، كما يحقق له هذا الهجوم ـ إن كان من تنفيذه ـ هدفا آخر ولو بشكل رمزي، وهو محاولة تجسيد شعار التنظيم "الدولة الإسلامية باقية.. وتتمدد"، وهو الشعار الذي جعل التنظيم يسعى للضرب والهجوم في كل أرجاء العالم لإعطاء الانطباع بأنه منتشر على أكبر رقعة أرضية وقادر على الوصول إلى حيث يريد.
وخلاصة القول هي أننا لا نملك في هذه المرحلة إلا التخمين والتحليل، في انتظار أن تنجلي المعلومة اليقينية عن حقيقة الاشتباك والطرف المجهول فيه.