يخطو الفتى السنغالي مدياو انبي (22 عاما) أولى خطواته على الأراضي الموريتانية التي كانت وجهته البديلة بعد أن سدت المنافذ المؤدية إلى وجهته الأولى الشواطئ الأوروبية.
لا يبدي الفتى انبي أي ندم على المخاطرة رغم أن الموت أطل عليهم برأسه أكثر من مرة، فقد أعادتهم الأمواج العاتية من مشارف المياه الإقليمية الإسبانية إلى عمق المياه الإقليمية الموريتانية، كما واجهوا الموت جوعا وعطشا بعد نفاد الماء والغذاء على متن قارب يقاوم الأمواج بأضعاف حمولته.
وصل الفتى انبي شواطئ العاصمة الموريتانية نواكشوط مساء الأحد 15 يوليو/تموز برفقة 124 مهاجرا غير نظامي، بينهم سبع نسوة وثلاثة أطفال صغار.
وبعد ثلاثة أيام وصل 75 مهاجرا آخر إلى شواطئ نواذيبو، وتركوا خلفهم في أعماق البحر 27 من رفاقهم لم تنجح جهود البحرية الموريتانية ولا مساعدة البحرية الإسبانية في العثور على أي أثر لهم حتى هذه اللحظة.
فشل محاولات انبي في دخول عالم المصارعة، وهي لعبة تقليدية ذات شعبية كبيرة في بلاده السنغال كان من دوافع تصميمه على الهجرة، ويتذكر انبي بدقة أثناء حديثه للجزيرة نت أنه دفع ما جمعه طوال أشهر (ثمانمئة يورو) لمهرب قذف به على متن قارب صغير كان راسيا في شاطئ مهجور قرب مدينة تيس السنغالية.
وزيرا الداخلية والصحة في استقبال المهاجرين بميناء نواكشوط (الجزيرة نت)
واقع مأساوي
شبح الفاقة الجاثم في أذهان آلاف الشباب الأفارقة يدفعهم غالبا للمغامرة مرارا وتكرارا، وهم لا يكادون ينجون من مخاطرة حتى يبدؤوا التخطيط لأخرى "أنا أريد أن أغير واقعي المأساوي، وأن أساعد أسرتي في تغيير ظروفها، وهذا يستحق المغامرة فالحياة كلها مغامرة "، هكذا يتحدث الشاب السنغالي مام الشيخ وهو يتهادى بين رجلي أمن موريتانيين والإعياء باد على محياه.
وجد مام مقاسات أمواج البحر مختلفة كليا عن مقاسات مبضعه التي يقطع ويخيط به أثواب السنغاليين قبل أن تغلق أمام كل الأبواب باستثناء بوابة المحيط الأطلسي أو هكذا تصور، وعزز تصوره وإصراره ظهور نماذج ناجحة في محيط قريته تمكن أصحابها من الوصول إلى جنة أوروبا، وبعد أشهر قليلة تغير واقع أسرهم بشكل جذري.
في وقفة مؤقتة بمرفأ صغير في ميناء نواكشوط يحاول عشرات المهاجرين غير النظاميين إعادة رسم حدود المسافة الفاصلة بين الحلم والحقيقة، غير أن تلك المسافة سرعان ما تختفي في أجواء التحركات الأمنية والطبية استعدادا لنقلهم إلى مركز احتجاز أمني قبل إعادتهم من حيث أتوا.
فاتو فتاة عشرينية لا تحمل أي هوية، قررت كسر حاجز الصمت المخيم على مكان الاحتجاز، ووجدت في كلمات من اللهجة الموريتانية تعلمتها خلال تجربة سابقا أداة لكسر هذا الصمت، فخاطبت رجال الأمن طالبة منهم حسن المعاملة، وألقت نظرة على المحيط وهو يبتلع شمس يومها التاسع منذ غادرت الشواطئ السنغالية، في تجربة عاشت خلالها أنواع المخاطر والمخاوف، ورغم ذلك فما زال البحر هو مصدر الحلم وجسر العبور نحو العالم الآخر بأوروبا.
انبي، ومام، وفاتو ليسوا سوى عينات لمئات الشباب الأفارقة المهاجرين من بلدانهم بقوارب صغيرة قد يختلف مكان انطلاقها ومسار طريقها لكن وجهتها واحدة: مواطئ قدم على الشواطئ الأوروبية ليس مهما في أي منطقة تقع أو في أي دولة.
مهاجرة غير نظامية أمام مركز صحي مؤقت في ميناء نواكشوط (الجزيرة نت)
ضعف القوارب
ولا يوازي كثرة هذه القوارب خلال الأسابيع الأخيرة سوى المخاطر المحدقة بها وانعدام وسائل الإنقاذ، إضافة إلى توقع ارتفاع الأمواج في أي لحظة، فضلا عن أجهزة الأمن المتربصة بهم والمدعومة أوروبيا بتجهيزات متطورة.
فشل آلاف الشباب الأفارقة في تحقيق حلمهم بالوصول إلى أوروبا، في حين نجح 63 ألفا وثمانمئة شاب في تحقيق هذا الحلم خلال الفترة من 1 يناير/كانون الثاني إلى 15 يوليو/تموز الجاري، 50 ألفا و872 عن طريق البحر، و130 ألفا و36 عن طريق البر، حسب إحصائيات منظمة الهجرة الدولية، ولا يزال حبل هذا القوارب على الجرار.
ويشكل تدفق المهاجرين غير النظاميين عبر المحيط الأطلسي بعد التضييق على ممرات أخرى كانت سالكة، خصوصا عبر البحر الأبيض المتوسط، ضغطا على جهات كثيرة أمنية وسياسية وحقوقية معنية بالملف، في حين تكثف منظمة الهجرة الدولية عبر مكاتبها في المنطقة جهودها للتفريق بين المهربين كمجرمين، والمهاجرين كفارين من واقع طارد، وباحثين عن مستقبل واعد.
كما أطلقت العام الماضي برنامجا لدعم جهود إعادة المهاجرين غير النظاميين إلى بلدانهم، وتشجيع دمجهم في الحياة هناك كما يقول مدير الاتصال في مكتب منظمة الهجرة الدولية في موريتانيا امم ولد دكرو.
وبين حيل المهربين ومخاطر البحر وعوائق أجهزة الأمن تتبخر أحلام الشباب الأفارقة الزاحفين باستمرار شمالا هربا من واقع لا يطاق، ولهثا وراء فردوس مفقود.
المصدر : الجزيرة