بعد فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني مرة أخرى، وبعد رئيس الوزراء المختار ولد أجاي، ها هو محمد ولد مولود رئيس حزب اتحاد قوى التقدم ينال رضا بيرام الداه اعبيد.
متى وهل يأتي دور آخرين مثل السيد محمد أحمد ولد محمد الأمين- وزير الداخلية- ورجل الأعمال محمد ولد بوعماتو؟
بالنسبة للأخير لا يبدو الأمر يسيرا، حسب ما ذكره بعض العارفين بالعلاقات بينه مع زعيم "إيرا". فهو الذي لا يقبل رغم محاولات قيل أن"بيرام" بذلها لاسترضائه. أما فيما يعني وزير الداخلية، فمن المرجح أن يلتزم هذا الاخير الصمتَ، كما فعل سابقا عندما وجه له بيرام أخطر تهمة إجرامية مدعيا أن "ولد احويرثي (على حد تعريفه) حاول اغتياله". وكان سكوت هذا الأخير كافيا لافراغ خطاب بيرام، العنيف والخطير جدا، من أي محتوى جدير بالاهتمام. لقد رفض حينها وزير الداخلية، هو والدولة، الدخول في مناورات التأزيم التي كثيرا ما يلعب بيرام على وتيرتها. كما أن الوزير لا يبدو في المقابل سهل الانجذاب نحو موجات توددٍ قد يرسلها بعضٌ من ناقديه المتشددين بمن فيهم زعيم "إيرا". وهو يعلم كم هذا الأخير يحاول دائما أن يمُوج بين المد والجزر، بين "التأزيم" و"التودد"، كنهج سياسي.
وعلى صعيد أخر متصل، فلا السيد محمد أحمد ولد محمد الأمين ولا أيًا من الذين سبق ذكر أسمائهم يشكلون حقيقة منافسين سياسيين لبيرام، حسب حسابات هذا الاخير. خصومه من نوع آخر: الذين يَخشى هو من أن يضايقوه في محاولاته الحثيثة الانفراد ب"الكعكة".
هؤلاء هم من حملوا.. أو يحملون.. أو سيحملون.. الزعامة في"قضية لحراطين".
وبصورة أدق، فبالنسبة للسيد بيرام: بُعدًا للجيل الأول من أمثال بيجل ولد هميد، مسعود ولد بلخير، ببكر ولد مسعود...إلخ. ولو أن هؤلاء لا ينبغي أن يشكلوا خطرا عظيما عليه، لسببين على الأقل:
أولا: لم يحتكروا أبدا "القضية" لأنفسهم، بل أتاحوا فرصة النضال لغيرهم وخاصة من الشباب. وبيرام على ذلك من الشاهدين: أطَّروه وكونوه واعطوه دفعا سياسيا استطاع بفضله أن تكون له مكانة يُحسدُ عليها في المشهد الوطني على الصعيدين الحقوقي والسياسي. كما أن طرحهم اتضح أنه لا يقتصر على "قضية لحراطين كإشكالية مستقلة بذاتها"، كما كان يتهمهم البعض بذلك. بل يعالجونها كمكونة مركبةٍ من التحديات المتنوعة المترتبة عن مواجهة مظاهر التخلف العام الذي يعيشه الوطن وجزءٌ كبيرٌ من العالم. وهذه الزاوية الوطنية الشاملة هي النظرة السليمة التي يتبناها اليوم جل الناشطين الموريتانيين أيا كان حقل عملهم. وهي تتنافى مع الأفق التي تَحصر مظاهر التخلف في زوايا ضيقة: شرائحية، أو عنصرية، أو دينية... إلخ.
ثانيا: أكثرية شباب لحراطين لم يعايشوا فترة نضال الجيل الأول حين كان في ذروته وما اعترض سبيلهم من صعاب خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي. الشباب فاقوا أساسا في أكثريتهم الساحقة على زعامات "لحراطين" من الجيل الثاني وما بعده.
غير أن الفكرة التي يعمل بيرام جاهدا على غرسها وترسيخها في أذهان هؤلاء الشباب وغيرهم من الناس أنه هو وحده المؤسس والحامل بلا منازع "للقضية"، وأنْ لا مكان فيها للريادة لغيره: لا قبله، ولا معه، ولا بعده.
فبالنسبة له: بُعدًا للزعماء السابقين-كما أسلفنا، وبُعدًا أيضا للمنافسين من جيله، من أمثال: براهيم بلال رمظان، د. السعد ولد لوليد، الفقيه محمد فال رشيد... وغيرهم. ولن يشفع عنده لهؤلاء الثلاثة وآخرين مثلهم كونهم شاطروه النضال الشاق ومحنه المختلفة: من مضايقات، أو سجون، أو "شيطنة"... بل على العكس، مسيرتهم معا وتجاربهم السياسية المشتركة وما نجم عن كل ذلك من معرفة عميقة بعضُهم لبعضٍ... كلها عوامل تدعو من اتخذ لنفسه صورة "الأسد" شعارا، إلى وضع رفاقه السابقين المنشقين عن "القطيع" على رأس لائحة الخصوم اللدودين. وله استراتيجية بسيطة لعزلهم قد لا تتناسب مع ما يُكنُّ لهم، لكنها تلائم ما لديه من وسائل وآليات: عدم ذكرهم وتجنب الحديث عنهم.
وهذا موقف مبدئي ثابت وشامل لدى زعيم "إيرا"، لا يطبقه على من أعلنوا خلافهم معه فحسب، بل يطال جميع الناشطين المنحدرين من "لحراطين" الذين لا ينضوون تحت رايته. سواء كانوا معارضة أو موالاة، وأيًا كان نشاطهم: سياسيون، حقوقيون... ناشطون في مجالات أخرى كالثقافة أو البيئة... إلخ
فمن الملاحظ مثلا أن بيرام لا يولي أي اهتمام للتظاهرة المتميزة الموسيقية "ترانيم" التي تقوم على تثمين المدائح النبوية التقليدية بوصفها خصوصية فنية موريتانية، فذة وجميلة، ابتكرها وطورها "لحراطين" و"العبيد" على مدى قرون من الزمن. وقد حققت ترانيم نتائج باهرة اعطتها بعدا عالميا. آخر نجاحاتها العابرة للحدود الوطنية: نيلُها في 18 سبتمبر من السنة الماضية "جائزة الشارقة الدولية للتراث الثقافي".
نجاح عظيم أشاد به الفاعلون عموما في الحقلين الثقافي والسياسي، باستثناء السيد بيرام الذي التزم صمتا مطبقا. وكأنه لم يعلم إطلاقا بالخبر‼
وليس هذا هو الحدث أو الأمر الهام الوحيد، المرتبط بما يعتبره زعيم "إيرا" "قضية لحراطين"، الذي يغيب عنه دون أن يشرح أو يبرر غيابه.
ففعلا، الناشطون في المجالات ذات الصلة بمحاربة العبودية ومخلفاتها يكافحون اليوم على جبهات عديدة: فكرية، قانونية، سياسية... بالإضافة إلى أنهم ينزلون إلى الميدان ويمارسون العمل الجمعوي على نطاق واسع من أجل تحسين ظروف المجتمع خاصة الفئات ذات الدخل الضعيف والمستويات المعاشية المتواضعة. وتتنوع مساحات عملهم وتتوسع باستمرار لتشمل: التهذيب الصحي، التعليم، محاربة الفقر، المحافظة على البيئة، التكيف مع التغير المناخي والحد من مخلفاته السلبية...
ويلاحظُ أن قوة جاذبية هذه النشاطات لا تميز بين من تطالهم كمستفيدين ولا كمشتركين فاعلين. يلتقي ويتكاتف فيها الموريتانيون من كل الألوان: لحراطين، البيظان، السود، البيض... وكان من حسن حظي أن اطلعتُ شخصيا بصورة مباشرة أو شاركت في بعضها قامت بها هيئة الساحل، أو نظمتها ناشطات من الحركة النسوية من بينهن ميمون السالك، على سبيل المثال لا الحصر.
لكنني لم أر أثرا للسيد بيرام ولا لمنظمته في هذا المنحى. مما يدفعني إلى التساؤل:
ألا يعلم زعيم "إيرا" أن نشاطات ميدانية مثمرة، فكرية وتطبيقية كهذه، تشكل دليلا ساطعا على مواءمة الاقوال مع الأفعال؟
وهل يعي حقًا كم السياسيون بحاجة ماسة إلى براهين قوية في هذا المجال‼
عفا الله عني وعنهم.
البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي)