لا تشذ حرب غزة عن غيرها من الحروب: حرب عبثية بامتياز، يعتقد المتصارعون فيها أنها فُرضت عليهم؛ ولم يحقق أي من الطرفين الأهداف التي أعلن عنها منذ الأيام الأولى من الحرب؛ إسرائيل-مثلا- لم تقض على حماس ولا على التهديدات العسكرية المحتملُ أن تصلها من جهة غزة، كما لم تحرر بالوسائل العسكرية إلا بضعة أفراد من الرهائن الاحياء بالإضافة إلى ست جثث لرهائن آخرين. أما الآخرون الذين تم الافراج عنهم، فقد كان ذلك بموجب صفقة تبادل تم توقيعها مع حماس بعد شهر ونصف من بداية الحرب. وبقي ما يزيد على 100 رهينة في أيدي حماس وحلفائها في غزة؛ لا يُعرف بالضبط كم منهم على قيد الحياة ولا كم فيهم من الأموات.
اهداف لم تتحقق، ونتائج لم تكن في الحسبان...
يرافق فشل إسرائيل في بلوغ أهدافها العسكرية المعلنة، وضع سياسي جديد- خارجي وداخلي- لا تحسد عليه: عزلة دبلوماسية متزايدة وضغوط سياسية عليها من حلفائها ومن الرأي العام العالمي، لم تجعل لها حسابا؛ بالإضافة إلى خلافات وصراعات داخلية عميقة لم تشهد مثلها من قبلُ في زمن الحرب. بينما نالت حماس مشروعية جيدة وهالة عظيمة ربما لم تكن تعول عليهما ليلة السابع من أكتوبر الماضي. الأمر الذي أعطاها قيمة سياسة زائدة على ما لدى منافسيها من الحركات الفلسطينية، وتفوقا معنويا كبيرا عوض إلى حد لا يُستهان به ما لقيته من خسائر عسكرية فادحة على يد العدو. وهذه النتائج، غير المبرمجة مسبقا، حالت دون شعور مقاتليها وانصارها بخيبة الأمل عندما لم تتمخض العملية عن تأمين المسجد الأقصى، ولا عن تحرير جميع السجناء الفلسطينيين لدى إسرائيل كما كان يُرجى من وراء "طوفان الأقصى".
بلْ، قَلَّ من الناس فعلا من يتذكرون الآن أن "تامين المسجد الأقصى" و"تحرير جميع السجناء الفلسطينيين لدى إسرائيل" كانا على رأس النتائج المراد تحقيقها من وراء "عملية 07 اكتوبر". وهذان الهدفان ما زالا بعيديْ المنال. فعلى عكس ما كان يُنتظر من عملية حماس وحلفائها الفلسطينيين في المقاومة المسلحة، فإن عدد السجناء الفلسطينيين ارتفع بنسبة كبيرة وساءت أحوالهم داخل المعتقلات والزنزانات الإسرائيلية؛ كما زاد عدد المستوطنين الصهاينة في الضفة والأراضي الفلسطينية المحتلة؛ واسترجعت إسرائيل جل السلطات في المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية. كما ضيق إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتشدد، من حرية الولوج إلى مسجد الأقصى وزاد من الضغط والاستفزازات ضد رواده من المسلمين.
من زاوية هذه اللوحة السوداء، تنظر السلطة الفلسطينية ومن هم على خطها السياسي إلى "طوفان الأقصى" بصورة سلبية. لكن إذا تركنا جانبا الاعتبارات والصراعات السياسية الفلسطينية الداخلية، فإن الإشكالية تبدو أكثر تعقيدا مما يمكن الحكم عليه بسهولة ب"لا" أو "نعم"، تبعا لمنطق الفكر المانوي (manichéen). لأن الثنائية "السيء" و "الحسن" قاصرة هنا عن علاج هذا النوع من المواضيع المركب والمعقد، حسب ما يُستشف من تحليل الوقائع والمتغيرات المتكررة والمتجددة، المتعلقة بة.
تغيرات متكررة تراوح مكانها...
مرة أخرى، يأمر الجيش الإسرائيلي (تْسْاهَل) منذ يومين السكان بمغادرة خان يونس إلى منطقة "آمنة" هو من حددها لهم. ومرة أخرى، يهجم الطيران العسكري والمدفعية وجنود المشاة الإسرائيليون على خان يونس قبل واثناء مغادرة السكان إلى "المنطقة الآمنة". ومرة أخرى، يُقتِّل يوميا تْسْاهَل الناس تقتيلا في خان يونس ودير البلح وغيرهما، بالعشرات: أطفالا، ونساء، وشيوخا وغيرهم.
ومرة أخرى، سوف يقول الجنرال دانييل هاغاري إن قواته تشن حملة للقضاء على قائد رفيع المستوى أو مجموعة محددة من حماس أو من الجهاد الإسلامي، أو أنها تعمل على تحرير رهائن أو جثثهم. ومرة أخرى، سوف تعيد الإدارة الأمريكية السردية الإسرائيلية؛ ومرة أخرى، قد لا تكلف نفسها عناء تأكيد مصداقيتها بشكل علني وصارخ، مكتفية بتكرارها وبالتلويح بإمكانية اتفاق لتحرير الرهائن ووقف الحرب لذر الرماد في العيون عبر مفاوضات عبثية لا طائل من ورائها.
ومرة أخرى، سوف تعلو في مناطق متفرقة من العالم أصوات غاضبة ومناوئة لإسرائيل، واصوات أخرى مضادة للأصوات المضادة لها في العالم الغربي لا تقل شراسة واندفاعا.
ومرة أخرى، سوف يبقى الصوت العربي خافتا وخجولا، منتظرا ومتريثا حتى "تمر العاصفة"، ويعود مسلسل "التطبيع" إلى الواجهة. ومرة أخرى، ستغيب السلطة الفلسطينية عن ساحة المعركة، كعقاب منها لحماس ومن يدورون في فلكها، معتبرة أن عملية "طوفان الأقصى" لم تحقق أيا من أهدافها المعلنة، بل إنها بعيدة منها كل البعد كما أسلفنا، وأنها في أحسن الحالات يمكن وصفها بما "جنتْ على نفسها براقش".
ومرة أخرى، سوف يعلن أبو عبيدة عن عمليات بطولية نفذتها المقاومة الفلسطينية؛ ومرة أخرى، سوف تعزز الجزيرة هي وخبراؤها العسكريون، مثل اللواء الدويري، قول الناطق باسم كتائب عز الدين القسام بعرض وشرح تسجيلات فيديو توثق العمليات المذكورة.
ومرة أخرى، سوف تتواصل هجمات حزب الله على المستوطنات الإسرائيلية المحاذية لحدود لبنان الجنوبية؛ ومرة أخرى، سوف يعرض صورا جوية مثيرة لمنشآت واهداف إسرائيلية حساسة، عسكرية ولوجستية، حصل عليها بواسطة مسيراته الجوية "كالهدهد" أو غيره.
ومرة أخرى، سوف ترد عليه تْسْاهَل بهمجية وعنف شديدين عبر قصف القرى اللبنانية وعبر اغتيال أطر ومقاتلين من الحزب؛ ولا يهم إن كلف ذلك إبادة أسرهم وجيرانهم أو تقتيل مدنيين آخرين.
ومرة أخرى، سوف يعلن العميد يحيى سريع، المتحدث العسكري باسم الحوثيين، عن عمليات بحرية مضادة للبواخر المتجهة إلى الموانئ في فلسطين المحتلة وعن هجمات جوية بالمسيرات يصل مداها حتى داخل إسرائيل...
ومرة أخرى، ُتفرض التضحيات العظام على الفلسطينيين. ومرة أخرى، سيفخر انصارهم بصمودهم ويشيدون ببسالتهم، كما لو كان لهم من سبيل غير الفناء أو مواجهة إبادة تكلفهم حرب إبادة لا مفر لهم من مواجهتها بجميع الوسائل رغم الثمن الباهظ جدا، البشري والمادي، الذي تكلفهم.
ومرة أخرى، تتواصل دوامة العنف الإسرائيلي، الأعمى والهمجي، ضد الفلسطينيين لحملهم على الاستسلام والقبول باستلاب أراضيهم من طرف معتد محتل. ومرة أخرى، فإنهم لم ولن يرضخوا: عنف الظالم يلد العنف لدى المظلوم، ليزيد الظالم من عنفه والمظلوم من مقاومته... وهكذا دواليك.
ومرة أخرى، وأخيرا- وليس آخرا، تبقي الحلقة المفرغة تدور دون توقف إلى أن يعزز الله أمرا كان مفعولا، ويحدث أمرا من غير المستبعد أن يقع في أجل ليس ببعيد.
متغيرات متجددة: قد تدعو إلى الأمل.. وقد تدعو إلى القلق...
الأمر الذي كان مفعولا يتمثل في ديمومة المقاومة الفلسطينية. وكما بينا سابقا، فهذه قضية محسومة: لم تترك إسرائيل وحماتها الأمريكيون للفلسطينيين من خيار غير المقاومة بأشكالها المختلفة: المسلحة، السياسية، الثقافية...
أما الامر الآخر، فيتعلق بتطور الاتجاهات التي تطبع مسار التحالفات والعلاقات الدولية. ومن بوادره التغيرات في موازين القوة الجيوسياسية على الساحة الدولية التي تمس النفوذ الأمريكي المتضرر من صعود الصين واسترجاع روسيا الاتحادية لجزء كبير من قوتها ومن تراجعٍ في نفوذ الغرب عموما، موازاة مع نهضة هادئة تعيشها دول صاعدة ينمو وزنها وتأثيرها بتدرج وسلاسة في المنافسات والعلاقات الدولية: تركيا، الهند، البرازيل، إيران، جنوب افريقيا...
هذه المتغيرات الجيوسياسية وما يرافقها من ضعفٍ متزايد في النفوذ الأمريكي يجعل أمن إسرائيل على محك خطير لم يسبق له مثيل، على الأمدين المتوسط والبعيد. والجدل القائم داخل المجتمع الأمريكي، وفي أوساط القرار في الولايات المتحدة حول إدارة نتنياهو للحرب في غزة، شاهد على حراك غير مسبوق في خطوط السياسة الأمريكية تجاه اسرائيل.
وقد بدأت تظهر في هذا المنحى مخاوف من شعور ينتشر شيئا فشيئا داخل إسرائيل وفي اللوبيات الداعمة لها بأن عبْء الدولة الصهيونية على كاهل الولايات المتحدة أصبح ثقيلا بدرجة قد لا تطاق في أجل غير بعيد. ولا شك أن الإدارة الأمريكية القادمة لن تهمل تلك المخاوف. فسواء كانت تحت رئاسة كامالا هاريس أو دونالد ترامب، فإن القيادة التي ستنبثق عن الانتخابات المقبلة بحاجة ماسة للتعامل مع ملف الشرق الأوسط بطرق تأخذ في الحسبان المتغيرات التي سبق ذكرها وتلك التي ستطرأ. وكلها تشير إلى أن المصالح الخارجية الأمريكية لم يعد من المقبول حصرها في الدعم الأعمى والمطلق للنظام الصهيوني مهما كلف ذلك واشنطن. فمرشحة الحزب الديمقراطي، خلافا لسلفها، يتبين أنها ليست ممن تربوا على أن "ضمان أمن أسرائيل هو السر في النجاح السياسي للقادة الأمريكيين داخليا وخارجيا، (انظر: "حرب غزة: الرئيس بايدن كمن فاق على الفأر... ")[i].
أما المرشح الجمهوري، فكلنا نتذكر شعاره: "America first" (أمريكا أولا). وهو شعار يحمله اقصى اليمين في العالم الغربي، حيث يرفعه هنالك كل تنظيم سياسي يميني راديكالي من منظوره الوطني. ولا مانع لديهم من العمل به تجاه إسرائيل-أو أي بلد آخر- إن دعت الحاجة لذلك، مع ما يقتضيه تكييفه مع توجهاتهم السياسية من إعادة ترتيبٍ جوهرية في علاقاتهم الخارجية وتحالفاتهم الاستراتيجية والتكتيكية.
صحيح، فيما يعني العلاقات بين إسرائيل والإدارة الامريكية، بأن كون الفرقاء في الدولتين قد يكونون على نفس الخط الإيديولوجي، أمر يسهل نظريا التعاون فيما بينهم. لكن التغيرات الجيوسياسية الناشئة والمتسارعة تفرض عليهم اكراهات مالية واستراتيجية لا تسمح للإدارة الأمريكية بتحمل، كما كانت تفعل من قبلُ، أعباء الدولة الصهيونية بلا قيد ولا شرط. فلا مفر لها من البحث عن آليات بديلة عن سياسة "التدليل" التي وفرتها لحد الآن للكيان الصهيوني بسخاء لا مثيل له في العلاقات الدولية. ويبدو "حل الدولتين" هو الأقرب إلى الأّذهان وإلى الواقع، على شرط أن تعتمده الولايات المتحدة حقا، وتعمل على تحقيقه بجدية وفعالية.
ويمكن القول في هذا السبيل بأن "طوفان الأقصى" حرك القضية الفلسطينية بصورة مثمرة لم يسبق لها مثيل؛ حيث أبان، من جهة، صمود المقاومة الفلسطينية ومن جهة أخرى، إلى حاجتها الماسة إلى توحيد صفوفها وإلى السلام والاستقرار لشعبها الذي ملَّ الحروب وعانى من مآسيها بصورة لا تصدق، وصار يطمح ويتوق بقوة إلى العيش بأمان تحت راية دولة فلسطينية كاملة السيادة. كما كشفت عملية "07 أكتوبر"، في المقابل، ضعفا بنيويا يمخر كيان الدولة الصهيونية ستكون له آثار لا محالة على حاميتها الأولى- أي: على الولايات المتحدة.
ونعتقد أنه حان الوقت لأن تكون لهذه الأخيرة نظرة جديدة لمواجهة الموقف الناجم عن "طوفان الأقصى" وتداعياته؛ نظرة ثاقبة تمر حتما بقبول ودعم الفلسطينيين في استعادة حقوقهم. وإلَّا، فلا يلومَنَّ أحد إلا نفسه، سواء في الإدارة الأمريكية وسواء في "محميتها المدللة"، إن كانت قوة الإضرار لدى "طوفان الأقصى" القادم أعظم وأشد من التي سبقتها في "07 أكتوبر" الماضي.
عقيد ركن (متقاعد) البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي)