باتت ظاهرة العنوسة والبوار تهدد بشكل كبير قسما كبيرا من فتيات موريتانيا وتحولت الظاهرة بارتفاع معدلات العناس، إلى مصدر قلق مجتمعي كبير.
دفع هذا الواقع المرير العوانس من نساء موريتانيا للخروج عن الحياء، حيث استخدمت عديدات منهن، مواقع التواصل الاجتماعي لتوجيه نداءات استغاثة صوتية إلى الموريتانيات المتزوجات يطلبن فيها منهن السماح لأزواجهن بالزواج من إضافيات في محاولة لإنقاذ مجتمع العوانس الذي يواجه المجهول.
وبعد أن كانت المرأة الموريتانية محافظة بشدة، دفعت العنوسة المريرة، فتيات عديدات لنشر صورهن على مواقع التواصل اقتناصا لفارس الأحلام ولو كان ذلك من خلال عالم الإفتراض.
العنوسة والعزوبة
يعتبر أهل المناطق البدوية والقرى الموريتانية العانس هي كل من تجاوزت العشرين ولم تتزوج، بينما سكان المدن يعتبرون العانس هي من تجاوزت الثلاثين ولم تتزوج لأنهم يرون أن الفتاة لابد أن تكمل دراستها قبل الزواج.
وتقابل عنوسة النساء، عزوبة الرجال، فهما وجهان لمشكلة واحدة هي تأخر الزواج.
ومع أن الإحصائيات تقدر عدد العوانس في الوطن العربي بـ13 مليونا، فإن ظاهرة العنوسة ليست قاصرة على المجتمعات العربية وحدها، وإنما هي في طبيعة الحال ظاهرة عالمية، غير أن الغرب الذي يعاني أيضا من ظاهرة العنوسة لا يشعر بحدتها مثل المجتمعات العربية نظرا لسهولة العلاقات هناك، إذ بامكان المرأة العيش مع الرجل كالأزواج سنوات طويلة وقد تنجب، وفي النهاية قد يقرران الزواج أو الانفصال.
عقليات معنسة
وتحصر الدراسات الاجتماعية أسباب العنوسة في عدة قضايا بينها قيام بعض الفتيات بتأجيل الزواج لإكمال دراستهن، ومن ذلك المغالاة في المهور والتكاليف المصاحبة للزواج، ومن أسبابها كذلك العزوف عن الزواج في الداخل واختيار الزواج من الأجنبيات.
ومن معيقات الزواج في المجتمع الموريتاني تقاليد غريبة تفرض على البنت الزواج من ابن عمها فتظل محجوزة له فقط وهو لا يريدها وهي لا تريده، ومن بين هذه العادات أيضا إصرار الأب أو الأم على ألا تتزوج الفتاة الصغيرة قبل الكبيرة، أو أن ابنتهما ما زالت صغيرة على الزواج ولم تكمل بعد تعليمها الجامعي.
ومن هذه التقاليد إصرار الأسرة على أن تكون مواصفات حفل الزفاف ومكان انعقاده لا تقل عن حفل زفاف شقيقة العروس، أو حفل زفاف ابنة عمها أو ابنة خالتها، أو حتى صديقتها أو جارتها، فالفتاة تريد حفل عرس يحكي عنه الناس، وفستانا وجهازا يتكلف الكثير بغض النظر عن ظروف الأسرة نفسها، إذ إن كل ما يهمها هو أن تستمتع بحياتها، وهو ما يدفع الشباب بدوره إلى الهروب من تكاليف حفل زواج لا يطيقه. وتعتبر البطالة السائدة حاليا بين فئآت الشباب الذين في هم سن قابل للزواج، أحد أسباب العنوسة، ومن أسباب العنوسة المبالغة في صفات الزوج.
وتعاني العانس من الوحدة والاكتئاب وتهاجمها الأمراض والهواجس النفسية فتقضي النهار في هم وقلق، والليل في حزن وأرق، وحياتها كلها انتظار لمن ينتشلها من هذا العذاب.
وجه نشطاء اجتماعيون نداءات للرئيس الموريتاني لتنظيم زيجات جماعية للشباب والشابات لتخفيف الضغط ولإسعاد من يسعى للزواج في المجتمع.
وتحت عنوان «معا لحماية حقوق المرأة الموريتانية: الأمن والأسرة والعفة» وجهت منظمة «آدم لحماية الطفل والمجتمع» وهي غير الحكومية، مؤخرا نداء استغاثة للجميع: سلطات وعلماء ونخب فكرية.
ودعت المنظمة إلى «تضافر الجهود من أجل تكريس حق المرأة الموريتانية في الأمن، أي حقها في العيش الكريم في جو آمن تأمن فيه على حياتها وشرفها في البيت والشارع وأماكن العمل والأسواق والقضاء على ظواهر التحرش والإغتصاب والاعتداء على النساء بشكل نهائي».
وتحدثت منظمة «آدم لحماية الطفل والمجتمع» كذلك عن «حق المرأة الموريتانية في تكوين الأسرة الصالحة السعيدة، وخاصة في ظل الإرتفاع الخطير لظاهرة العنوسة في المجتمع، مقدمة حلولا للمشكلة من بينها «تسهيل وتشجيع الزواج، والقضاء على العادات الجاهلية البالية في غلاء المهور، وتكاليف الزواج، والقضاء كذلك على الفوارق الطبقية والفئوية في الزواج، وفتح الباب للزواج المختلط بين كل الفئات والطبقات الاجتماعية».
واقترحت المنظمة «تقديم قروض ميسرة للزواج لصالح الشباب عبر المؤسسات المعنية مثل صندوق الإيداع والتنمية ووزارة الشؤون الاجتماعية، مع تشجيع الزواج المبكر للشباب والشابات وكذا تشجيع تعدد الزوجات بالعدل والإحسان».
أسباب العنوسة
واختلف متتبعو هذه الظاهرة حول سببها بين من يعتقد أنه ارتفاع تكاليف الزواج تبعا لعادات المجتمع، ومن يرجعه إلى عزوف الشباب عن الزواج.
وتزامن انتشار العنوسة مع ارتفاع في معدلات الطلاق وصل لأكثر من 40 في المئة، ومع حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي مترسخة بشكل كبير في المناطق الحضرية.
تقول تربة بنت عمار أستاذة التاريخ الإسلامي في جامعة نواكشوط «يجب علينا في موريتانيا التي أصبحت بين فكي الطلاق والعنوسة بنسب مخيفة والتي تسير فيها العنوسة بخطوات متسارعة، أن نبحث عن حل أخف ضررا من العنوسة وانعكاساتها السلبية».
وأضافت «لا شك أن للتعدد عقبات نفسية وإكراهات اجتماعية إلا أن للعدالة سحرا يكسر سطوة الضرة ومع الزمن تأوي المرأة المعددة إلى ركن منيع من الأبناء والأحفاد وتجتاز المحنة، أما العنوسة فقلق ووحدة ومصير مجهول، فأكثر نزلاء دور العجزة في العالم العربي هن من ضحايا هذه العنوسة».
«فلنختر إذن، تضيف الباحثة، «الضرة» وما فيها من طعم مرير مؤقت على العنوسة وما فـيهــا من مصير مجهول ومرارة أبدية».
الموريتانية مكرمة.. لكن!
وينظر المرابط ولد محمد لخديم الباحث الأكاديمي الموريتاني لظاهرة العنوسة من زوايا أخرى، فهو أولا، يرى «أن المرأة الموريتانية معززة مكرمة في مجتمعها وهذه المكانة جعلتها تنفرد بخصوصيات لا تتمتع بها نظيراتها من النساء العربيات، فهي محظوظة في كون الطلاق لا يعد انتقاصا منها، فمثلاً عندما تطلق المرأة عادة ما يكون هذا الحدث في البلاد العربيَّة مأساويا، فهو في موريتانيا يحدث العكس حيث تحتفل المرأة المطلقة عموما، وكأنه تعبير عن أن ما حدث ليس انتقاصا من كرامتها ولا امتهانا لها، بل أكثر من ذلك قد تطلق عدة مرات ولها الحق – اجتماعيا – في مغادرة بيتها والعودة إلى بيت أهلها، وهذا ما يؤدي بالزوج إلى الذهاب إليها واسترضائها لأن غضب النساء أو الإساءة إليهن ليست من المروءة أو كرم الخلق الذي تفرضه العادات والتقاليد الموريتانية».
«كل هذا، يضيف الباحث، لم يمنع مئات الموريتانيات من المطالبة بإيجاد حل لمشكلة العنوسة ضاربات عرض الحائط بكل التقاليد والأعراف التي يمليها المجتمع مؤكدات على ضرورة تدخل رئيس الجمهورية شخصيا لحل هذا المشكل الذي بات يؤرق مضاجعهن بل أكثر من ذلك نشر صورهن على الشبكة العنكبوتية ومطالبتهن بتعدد الزيجات في مجتمع محافظ كانت المرأة تتجنب تسمية الرجل فيه باسمه متخذة ما يسمى بشعر النساء أو (التبراع) للبوح عما يجول في خاطرها من الحب».
وزاد «الفساد استفحل والمجتمع ضاع وترهل.. والسبب هو عدم معالجة الأسرة الإعلامية والدولة والعلماء والوجهاء لهذا الداء العضال المنتشر في المجتمع، ولا أدل على هذا من لجوء النساء الموريتانيات إلى مواقع التواصل الاجتماعي كملاذ للبحث عن عريس من خارج جبة التقاليد».
الكلفة الباهظة
وعن أسباب انتشار العنوسة يقول الباحث «ان المجتمع الموريتاني اخترع نظاما اجتماعيا متكاملا قاعدته القبيلة. وقد نشطت المهارات الإبداعية في هذا المجال فاخترعت ضمانات أخلاقية، واجتماعية، للحيلولة دون تلاشي هذه العادات بينها ارتفاع المهور، وتكاليف حفلات الزفاف، والأثاث، وارتفاع أسعار الذهب والعقارات والشقق السكنية، وغيرها من متطلبات الزواج، والمتضرر الأول والأخير في هذا كله هو المرأة الموريتانية مربية الأجيال».
واقترح الباحث المرابط ولد محمد لخديم اللجوء للزواج الجماعي لمساعدة الشباب على إزاحة العوائق التي تقف أمامه اذا أراد أن يتزوج، مثل غلاء المهور وإيجار المسكن وتكاليف حفلة العرس.
ويرى «أن للزواج الجماعي أهمية كبرى في إقبال الشباب على الزواج بل والحد من عنوسة النساء، وتوفير المال على المتزوج، وعدم الإسراف والتبذير في الولائم…وصيغته هي تزويج أعداد من الشباب لعدد مماثل من الشابات، بهدف تكوين أسر جديدة تسهم في نماء وتطور المجتمع.. وهذه فكرة ممتازة، يضيف المرابط، للتخفيف من التكاليف الثقيلة والباهظة الموضوعة على عاتق الموريتاني الراغب في الزواج».
ويضيف «أن غلاء المهور والتنافس والتفاضل جعل الكثير من الشباب الموريتاني يعزف عن الزواج بموريتانيات واستبدالهن بأجنبيات أو عدم الزواج مطلقا ما قد يتسبب في الكثير من الأمراض الاجتماعية كاللجوء إلى الرذيلة وغيرها».
تعدد الزوجات هو الحل
ولمواجهة العنوسة المستفحلة قررت إحدى المجموعات القبلية في موريتانيا خلال اجتماع عقده أعيانها مؤخرا في العاصمة نواكشوط، إقرار مبدأ تعدد الزوجات كحل لانتشار ظاهرة العنوسة بين نساء المجموعة.
وحسب ما أوردته صحيفة «الساحة» الموريتانية المستقلة، فقد تدارس أعيان المجموعة الوضع الاجتماعي للقبيلة وأسباب انتشار العنوسة بين نسائهم، وعزوف الشباب عن الزواج من نساء القبيلة، وتوصلوا إلى قرارات من بينها، تشجيع ظاهرة تعدد الزوجات داخل مجموعتهم القبلية، والتي يرفضها المجتمع القبلي في موريتانيا بشكل صارم. كما قرروا وضع حد أدنى للمهر لا يقل عن 200 دولار أمريكي، ولا يتجاوز 350 دولارا، وذلك في محاولة منهم لمحاربة ظاهرة غلاء المهور التي يعتبرونها من أهم أسباب عزوف الشباب عن الزواج، فضلا عن رفض النساء للتعدد.
وبعد موافقة أعيان المجموعة على القرارات، أعربت نساء القبيلة عن صدمتهن منها ووصفنها بالجائرة وغير المنصفة، وحاولن التصدي لها، إلا أن بعض شيوخ القبيلة استطاعوا إقناعهن بقبولها باعتبارها السبيل المتاح أمامهن لتجاوز أزمة العنوسة التي تعاني منها شريحة واسعة من النساء، وهو حل وإن كان مجحفا إلا أنه أقرب المتاح حسب تعبير أحد شيوخ القبيلة.
العنوسة والطلاق
وتشمل مجموعة عوانس موريتانيا على صنفين من النساء هما فئة الفتيات اللائي لم يتزوجن قط وفئة المطلقات اللائي تزوجن لفترات قصيرة جدا.
وتشير دراسة لوزارة شؤون المرأة إلى «أن هناك أسبابا ثلاثة للطلاق في موريتانيا حيث تبلغ نسبة الطلاق الناجم عن الخلاف بين الزوجين 20 في المئة بينما تبلغ النسبة الناتجة عن إرغام المرأة على الزواج 16 في المئة، ونسبة الطلاق الناجم عن تعدد الزوجات والخيانة الزوجية 14 في المئة.
وتؤكد الدراسة «أن نسبة الطلاق الناجم عن عدم تفاهم الزوجة مع أسرة زوجها 20 في المئة فيما تبلغ نسبة الطلاق الناجم عن عدم تفاهم الزوج مع أحمائه 7 في المئة».
وتؤكد نتائج التحقيق حول السكان والصحة في موريتانيا للفترة من 2000 إلى 2001 أن نسبة 27 من الأطفال الذين انفصل أبواهم، يعيشون مع الزوجة بينما لا تتجاوز نسبة الذين يعيشون مع الزوج 4 في المئة، ويشير هذا التحقيق إلى أن غالبية حالات الطلاق جاءت بطلب من المرأة.
من كل هذا تتضح الأوضاع المزرية التي تعيشها المرأة الموريتانية داخل مجتمع يشهد تحولا كبيرا ويعاني اهتزازات على أكثر من صعيد.
عبد الله مولود/نواكشوط ـ «القدس العربي»