بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على نبيه الكريم
وبعد
فقد أجمع الصحابة رضوان الله عليهم والتابعون ومن بعدهم من علماء الأمة رحمهم الله تعالى على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو آذى تصريحا أو تعريضا يتعين قتله.
وهذه نصوص العلماء في ذلك :
ابن المنذر رحمه الله : وأجمعوا على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم أن له القتل هـ باللفظ .(الإجماع للإمام ابن المنذر /122)
القاضي أبو الفضل عياض رحمه الله تعالى: اعلم وفقنا الله وإياك أن جميع من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه أو ألحق به نقصا في نفسه أو نسبه، أو دينه أو خصلة من خصاله أو عرض به أو شبهه بشيء على طريق السب له أو الإزراء عليه، أو التصغير لشأنه، أو الغض منه والعيب له فهو ساب له.والحكم فيه حكم الساب يقتل كما نبينه (…) ولا نعلم خلافا في استباحة دمه بين علماء الأمصار وسلف الأمة. وقد ذكر غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره . (…) وهذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلم جرا, قال محمد بن سحنون: أجمع العلماء أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المتنقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل. ومن شك في كفره وعذابه كفر هـ باختصار (الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض /253-255
أبوسليمان الخطابي رحمه الله :ساب النبي صلى الله عليه وسلم مقتول , ولا أعلم أحداً من المسلمين اختلف في وجوب قتله. هـ باختصار (معالم السنن , 3/ 296
ابن تيمية رحمه الله: وقد حكى أبو بكر الفارسي من أصحاب الشافعي إجماع المسلمين على أن حد من يسب النبي صلى الله عليه وسلم القتل كما أن حد من سب غيره الجلد وهذا الإجماع الذي حكاه هنا محمول على إجماع الصدر الأول من الصحابة والتابعين. هـ باللفظ (الصارم المسلول على شاتم الرسول (صلى الله عليه وسلم) , لابن تيمية / 23)
وصرح في موضع آخر من هذا الكتاب بإجماع الصحابة على ذلك ولفظه : وأما إجماع الصحابة رضي الله عنهم فلأن ذلك نقل عنهم في قضايا متعددة ينتشر مثلها ويستفيض ولم ينكرها أحد منهم فصارت إجماعا. واعلم أنه لا يمكن ادعاء إجماع الصحابة على مسالة فرعية بأبلغ من هذا الطريق.هـ (الصارم المسلول على شاتم الرسول (صلى الله عليه وسلم) لابن تيمية /169)
وقد حصلت وقائع في عهد النبي صلى عليه وسلم أمر فيها بقتل من آذاه:
ابن بطال في شرح البخاري : وحجة أخرى وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من لكعب بن الأشرف؛ فإنه قد آذى الله ورسوله) فقتله محمد بن مسلمة، والسب من أعظم الأذى، وكذلك قتل -صلى الله عليه وسلم – ابنَ خطل يوم فتح مكة والقينتين اللتين كانتا تغنيان بسبه، ولم ينفع ابن خطل استعاذته بالكعبة.هـ باللفظ ( شرح صحيح البخارى لابن بطال (8/ 582)
وروى أبو داود عن أبي برزة، قال: كنت عند أبي بكر رضي الله عنه، فتغيظ على رجل، فاشتد عليه، فقلت: تأذن لي يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أضرب عنقه؟ قال: فأذهبت كلمتي غضبه، فقام، فدخل، فأرسل إلي، فقال: ما الذي قلت آنفا؟ قلت: ائذن لي أضرب عنقه، قال: أكنت فاعلا لو أمرتك؟ قلت: نعم، قال: لا والله، ما كانت لبشر بعد محمد صلى الله عليه وسلم.سنن أبي داود (4/ 130)
ولله در المنشد في هذا المقام:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
ورحم الله البوصيري القائل في هذا الشأن:
فانظروا كيف كان عاقبةُ القو م وما ساق للبَذِيِّ البَذاء
وَجَدَ السبَّ فيه سُمًّا ولم يَدْ رِ إذِ الميمُ في مواضعَ باءُ
وأما حديث مسلم في شأن الرجل الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم منصرفه من الجعرانة وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها، يعطي الناس، فقال: يا محمد، اعدل، قال: «ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبتَ وخسرتَ إن لم أكن أعدل» فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني، يا رسول الله فأقتل هذا المنافق، فقال: معاذ الله، أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية)
فلا حجة فيه على عدم قتل المتطاول على مقام النبوءة , ولا على أن عقوبة المتطاول ليست حدا من حدود الله
دليل كونه ليس حجة لعدم قتل المتطاول على مقام النبوءة ما قاله القاضي عياض رحمه الله في فصل من كتابه الشفا عقده لذلك بعد نقله الإجماع على قتل سابه صلى الله عليه وسلم ونصه : فصل في أسباب عفوه صلى الله عليه وسلم عن بعض من آذاه : فإن قلت فلم لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم اليهودي الذي قال له السام عليكم وهذا دعاء عليه ولا قتل الآخر الذي قال له إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله ، وقد تأذى النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، وقال: «قد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر؟ ولا قتل المنافقين الذين كانوا يؤذونه في أكثر الأحيان
فاعلم وفقنا الله وإياك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول الإسلام يستألف عليه الناس ويميل قلوبهم إليه، ويحبب إليهم الإيمان ويزينه في قلوبهم، ويداريهم ويقول لأصحابه: إنما بعثتم مبشرين ولم تبعثوا منفرين ويقول «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا» .ويقول: «لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه وكان صلى الله عليه وسلم يداري الكفار والمنافقين ويجمل صحبتهم، ويغضي عنهم، ويحتمل من أذاهم، ويصبر على جفائهم، ما لا يجوز لنا اليوم الصبر لهم عليه
فلما استقر وأظهره الله على الدين كله قتل من قدر عليه واشتهر أمره كفعله بابن خطل ومن عهد بقتله يوم الفتح
وقد رأيت معنى ما حررته منسوبا إلى مالك بن أنس رحمه الله . هـ باختصار (الشفا /257 ) فما بعدها
وقال في شرح مسلم – في الكلام على حديث السقي- : فيه صبر النبي صلى الله عليه وسلم على الأذى والاحتمالُ للجفاء ومثل هذا لو صدر اليوم من أحد في حق النبي صلى الله عليه وسلم لكان كفرا يجب قتل قاتله لكنه عليه السلام كان أول الإسلام يؤلف ويدفع بالتي هي أحسن وكان يصبر للمنافقين ومن في قلبه مرض على أكثر من هذا من التصريح والتعريض.هـ باللفظ (إكمال المعلم 7/327
وقال ابن تيمية رحمه الله في الصارم المسلول-بعدما نقل إجماع الصحابة على قتل الساب لرسول الله صلى عليه وسلم- : ومما يدل على أن السب جناية زائدة على كونه كفرا وحرابا وإن كان متضمنا لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يعفو عمن يؤذيه من المنافقين كما تقدم بيانه وقد كان له أن يقتلهم كما تقدم ذكره في حديث أبي بكر وغيره ولو كان السب مجرد ردة لوجب قتله كالمرتد يجب قتله ؛ فعلم أنه قد تغلب في السب حق النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يجوز له العفو عنه هـ باللفظ . (الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم (/ 230
وقال القرطبي في شرح مسلم عند ذكر حديث عائشة رضي الله عنها ” ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء حتى تنتهك حرمات الله” : يعني أنه كان يصبر على جهل من جهل عليه ويحتمل جفاه ويصفح عمن آذاه في خاصة نفسه كصفحه عمن قال ” يا محمد اعدل . …فإن قيل فأذاه انتهاك حرمة من حرم الله فكيف يترك الانتقام لله تعالى فيها وقد قال تعالى {والذين يوذون الله ورسوله لهم عذاب أليم}؟ فمراد عائشة رضي الله عنها بقولها (إلا أن تنتهك حرمات الله) الحرمة التي لا ترجع للنبي صلى الله عليه وسلم كحرمة الله وحرمة محارمه فإنه كان يقيم حدود الله على من انتهك شيئا منها ولا يعفو عنها كما قال في حديث السارقة (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها )
لكن ينبغي أن يُفهم أن صفحه عمن آذاه كان مخصوصا به وبزمانه لما ذكرناه وأما بعد ذلك فلا يعفى عنه بوجه . هـ باختصار .(المفهم 6/118-119
وقال في موضع آخر : وهذا الذي صدر من خصم الزبير أذى للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم لما قدمناه من عظم حلمه وصفحه , وليلا يكون قتله منفرا لغيره عن الدخول في الأسلام , فلو صدر اليوم مثل هذا من أحد في حق النبي صلى الله عليه وسلم لقتل قتلة زنديق.هـ ( المفهم 6/157
وقال ابن حجر الهيثمي في الإعلام بقواطع الإسلام – بعد ما ذكر أن تكذيبه صلى الله عليه وسلم ولو في أمر دنيوي كفر : ” ولا ينافي ذلك ما وقع من جفاة الأعراب مما يقرب من ذلك لأنهم كانوا معذورين لقرب إسلامهم .هـ باللفظ (الإعلام بقواطع الإسلام لابن حجر الهيتمي /352)
وقال في موضع آخر من هذا الكتاب –ناقلا حجج قتل الساب- فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من آذاه أو تنقصه والحق له وهو مخير فيه فاختار قتل بعضهم والعفو عن بعضهم وليس لأمته بعده أن يسقطوا حقه .هـ باللفظ (الإعلام بقواطع الإسلام لا بن حجر الهيتمي /398)
ودليل كونه ليس حجة على أن عقوبة المتطاول على مقام النبوءة ليست حدا أن الحد إذا كان في حق لآدمي فله العفو عنه ولذا يجوز عفو ولي الدم عن القاتل , و عفو المقذوف عن القاذف وعفو المسروق منه عن السارق قبل أن يرفعه للإمام , ولا خلاف في أن المترتب على هؤلاء حدود.
وقد قال ابن تيمية رحمه الله : إن قتل الساب حد بالاتفاق. (الصارم المسلول /204
وانعقد الإجماع على قتال أهل الردة وقتل المرتد إذا لم يتب ؛ قال ابن حزم في مراتب الإجماع : واتفقوا على قتال أهل الردة بعد اختلاف عظيم كان منهم , ولكن الخلاف في هذا من أفحش الخطأ.(…) واتفقوا أن من كان رجلا مسلما حرا باختياره وبإسلام أبويه كليهما أو تمادى على الإسلام بعد بلوغه ذلك ثم ارتد إلى دين كفر كتابي أو غيره وأعلن ردته واستتيب ثلاثين يوما مائة مرة فتمادى على كفره وهو عاقل غير سكران أنه قد حل دمه هـ باللفظ . (مراتب الإجماع لابن حزم / 126 – 127
ولا حجة في قوله تعالى {لا إكراه في الدين } ولا في حديث البخاري في شأن الأعرابي الذي استقال من البيعة على عدم استتابة المرتد وقتله إذا لم يتب, , أما الآية فقد بينا عدم دلالتها على ذلك في ملاحظات سابقة وهو أنها إما مخصصة بصور سبب نزولها , أو منسوخة , وليست على ظاهرها إجماعا , ونذكر هنا أن قول المستدل بها إن النكرة في سياق النفي من أعم صيغ العموم مخالف لما هو الأصح عند الأصوليين , وهم أهل هذا الشأن ؛ قال العضد في شرح مختصر منتهى السول والأمل لابن الحاجب : إذا تعارضت صيغ العموم فصيغة الشرط الصريح تقدم على الصيغة الواقعة في سياق النفي وغيرها كالجمع المحلى والمضاف ونحوهما لأن دلالتها أقوى لإفادة التعليل هـ . (شرح مختصر المنتهى الأصولي 3/657
وقال ولي الدين العراقي في الغيث الهامع إن في المحصول ما يوافقه : وهو أن عموم صيغة الشرط بالوضع , وعموم النكرة في سياق النفي بالقرينة (الغيث الهامع /679
ولا حجة في حديث البخاري في شأن الأعرابي الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم أقلني بيعتي …إلخ على عدم قتل المرتد إذا لم يتب , وهذا كلام العلماء في ذلك
أبو عمر بن عبد البر : في هذا الحديث من العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبايع الناس على حدود الإسلام ومعنى ذلك أنه كان يبايعهم على شروط الإسلام ومعالمه وهذا معروف في غير ما حديث وكان ذلك الوقت من حدود الإسلام وفرائضه البيعة على هجرة الأوطان والبقاء مع النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك كان قطع الله ولاية المؤمنين المهاجرين ممن لم يهاجر منهم فقال والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا بريء من كل مسلم باق مع مشرك وكان يشترط عليهم السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره إلى أشياء كثيرة كان يشترطها قد ورد في الآثار ذكرها (…) وعلى هذا والله أعلم كانت بيعة هذا الأعرابي المذكور في هذا الحديث على الإسلام والهجرة فلما لحقه من الوعك ما لحقه تشاءم بالمدينة وخرج عنها منصرفا إلى وطنه من أهل الكفر ولم يكن ممن رسخ الإيمان في قلبه وربما كان من جنس الأعراب الذين قال الله عز وجل فيهم (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله) . هـ باختصار (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (12/ 223
الباجي : يحتمل أنه كان من حكم الإسلام حينئذ الهجرة إلى المدينة على المقام بها مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن ذلك تضمنته بيعته للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولذلك كان سأله أن يقيله بيعته . يؤيد هذا التأويل أنه نقض ذلك بالخروج، وهو الذي نقل إلينا من حاله، ويحتمل أنه كان بعد انقضاء أمد فرض الهجرة، وإنما بايعه صلى الله عليه وسلم على الإسلام ثم جاء يسأله أن يقيله في ذلك لما استجاز الكفر ولم يستجز نقض العهد، واعتقد أنه تسوغ إقالته فيه لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن إقالته تتضمن إباحة الكفر، والله عز وجل يعصم نبيه من ذلك .(المنتقى شرح الموطإ (7/ 189
ابن بطال : والدليل على أنه لم يرد الارتداد عن الإسلام أنه لم يرد حل ما عقده إلا بموافقة النبى (صلى الله عليه وسلم) على ذلك، ولو كان خروجه عن المدينة خروجا عن الإسلام لقتله عليه السلام حين خرج، وإنما خرج عاصيا، ورأى أنه معذور لما نزل به من الوباء، ولعله لم يعلم أن الهجرة فرض عليه وكان من الذين قال الله فيهم: (وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله) فقال فيه عليه السلام: (إن المدينة كالكير تنفى خبثها) . هـ باللفظ ( شرح صحيح البخارى لابن بطال (4/ 552
وكون عقوبة المتطاول على مقام النبوءة من باب السياسات الشرعية –كما قيل- صحيح لكن ذلك لا يخرجها عن كونها حدا لأن ترتيب أحكام الحدود والعقوبات على أسبابها هو موضوع القسم الخامس -بأصنافه الستة- من أقسام السياسة الشرعية في تبصرة ابن فرحون. ونصه : القسم الخامس: وهو المقصود شرع للسياسة والزجر وهو ستة أصناف: الصنف الأول: شرع لصيانة الوجود، كالقصاص في النفوس والأطراف، فمن ذلك قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون}. معناه أن القصاص الذي كتبته عليكم إذا أقيم ازدجر الناس عن القتل،. ومن ذلك قتال الخوارج والمحاربين والكفار، قال الله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف} الآية، وفي قتال الكفار زيادة معنى هو إعلاء كلمة الحق ومحو الشرك…إلخ هـ باختصار (تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام (2/ 139
ولا بد هنا من توضيح للمراد بالسياسة الشرعية لمعرفة مواضع إيرادها , وهذا كلام ابن فرحون عليها في تبصرة الحكام : والسياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشرع يحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم وتدفع كثيرا من المظالم، وتردع أهل الفساد ويتوصل بها إلى المقاصد الشرعية، فالشريعة توجب المصير إليها والاعتماد في إظهار الحق عليها، وهي باب واسع تضل فيه الأفهام وتزل فيه الأقدام، وإهماله يضيع الحقوق ويعطل الحدود، ويجرئ أهل الفساد ويعين أهل العناد. وبهذا سلكت فيه طائفة مسلك التفريط المذموم، فقطعوا النظر عن هذا الباب إلا فيما قل ظنا منهم أن تعاطي ذلك مناف للقواعد الشرعية، فسدوا من طرق الحق سبيلا واضحة، وعدلوا إلى طريق العناد فاضحة، لأن في إنكار السياسة الشرعية والنصوص الشريفة تغليطا للخلفاء الراشدين.
وطائفة سلكت هذا الباب مسلك الإفراط، فتعدوا حدود الله تعالى وخرجوا عن قانون الشرع إلى أنواع من الظلم والبدع والسياسة، وتوهموا أن السياسة الشرعية قاصرة عن سياسة الخلق ومصلحة الأمة، وهو جهل وغلط فاحش. فقد قال عز من قائل: {اليوم أكملت لكم دينكم} فدخل في هذا جميع مصالح العباد الدينية والدنيوية على وجه الكمال، وقال – صلى الله عليه وسلم -: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي» .
وطائفة توسطت وسلكت فيه مسلك الحق وجمعوا بين السياسة والشرع، فقمعوا الباطل ودحضوه، ونصبوا الشرع ونصروه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. (تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام (2/ 137)
الحاصل :
– أن من ثبتت إساءته إلى النبي صلى الله عليه وسلم تصريحا أو تعريضا يقتل إجماعا , ولا دليل في عدم قتل النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال له (اعدل) على عدم قتل الساب ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم له العفو عن حقه , ولا يجوز للأمة أن تعفو عن حق للنبي صلى الله عليه وسلم.
– وأن من ثبتت ردته ولم يتب في مهلة الاستتابة يقتل إجماعا ولا دليل في قوله تعالى (لا إكراه في الدين ) ولا في حديث الأعرابي الذي قال (يا رسول الله أقلني) على عدم استباحة دم المرتد الذي لم يتب. لأن الآية أجمع العلماء على أنها ليست على ظاهرها بل هي إما منسوخة أو مخصصة , فالاستدلال بها إحداث قول ثالث خارق للإجماع . ولا معنى لذكرها في سياق التطاول على مقام النبوءة.
والحديث إنما استقال فيه الأعرابي من الهجرة بقرينة طلبه للإقالة إذ لو أراد الردة لفرَّ ولم يأت النبي صلى الله عليه وسلم مستقيلا.
فمن دعا إلى عدم قتل المتطاول على مقام النبوءة , والمرتد الذي لم يتب فهو داع إلى خرق الإجماع المنعقد من لدن الصحابة.
– وأن السياسة الشرعية نظام شامل لمقاصد الشرع الدينية والدنيوية ومن أهم تلك المقاصد ترتيب أحكام الحدود والعقوبات على أسبابها , وليست قاصرة على المصالح الدنيوية للعباد.
فلا تنافي –إذًا- بين سلطة الشرع القويم وحرية التصرف السليم , ولا بين سماحة الدين وقتل من اقتضى حفظُ الدين قتلَه.
ولقد أحسن أبو الطيب المتنبي في قوله :
ووَضْعُ الندى في موضعِ السيفِ بالعُلا ** مُضِرٌّ كوَضْعِ السيف في موضِعِ الندى
والله الموفق