"مسيه"، أي "سيدي " باللغة الفرنسية، هو اللقب الذي اشتهر به، المغفور له بإذن الله، محمد الأمين ولد محمد الأمين، طيلة مشواره المهني، حتى انه ظل اسما عائليا إلي يومنا هذا، رغم أن المرحوم توفي منذ ثلاثة عقود من الزمن بالتحديد في سبتمبر 1994.
لقب عرف المرحوم بصفة خاصة في مقاطعة أوجفت، في ولاية آدرار، التي سخر لها كل ما أوتي من قوة و سعة، خدمة في تنميتها المحلية، منذ أن تم تكليفه الرسمي بمزاولة مهنة التدريس النظامي بين تلك الجبال المترامية و الصحاري الصعبة، كأول معلم موريتاني بعيد الاستقلال، للمساهمة في نشأة الأجيال المستقبلة للبلاد.
عمل المرحوم أكثر من ابن لتلك المقاطعة ولم تكن المهمة التربوية بالأمر اليسير في مجتمع بدوي لايرغب أهله إطلاقا في إدخال أبنائهم في التعليم الحديث.
وهو ما جعل بعض الأهالي، المتحفظين من المصير الذي ينتظر أبنائهم، يرافق التلاميذ إلي باب القسم من اجل الاطلاع علي ما يجري من خلال النوافذ، يتابع بقدرة من الدهشة و الاستغراب تعليم الاولاد لغة "النصاري" التي كان تدريسها آنذاك ضروري لمواكبة تحول الكيانات الموريتانية الي دولة تتمع بأطرها المنحرين من ابناءها
ومن هنا، انطلق اللقب الأجنبي الأنف الذكر "مسيه"، بعد أن اخبر بعض الإباء الفضوليين للشأن التربوي، إنه سمع ولده ينادي مرات عددة المرحوم ب"مسيه"، متختلصا من ذلك التاريخ ذلك اللقب بدل اسمه المدني الرسمي محمد الامين ولد محمد الامين الملقب حدمين.
ولم تكن المدرسة في تلك الفترة، عديمة الإرادة والمعدات، بل وفرت عكس ذلك، كل الشروط الأخلاقية والمادية لإنتاج مثقفين أكفاء، وطنين و متحمسين في نيل المعارف و مستعدين لمنافسة زملائهم في باقي ارجاء الوطن في تقلد الوظائف العليا في الدولة الناشئة.
لفد اشتهر المرحوم محمد الأمين ولد محمد الأمين بكرمه المثالي. فكان منزله مفتوحا ليل نهار، أمام الوافدين إلي المدينة من القري والبوادي النائية للتزود أو للعلاج أو للتوقف في أسفارهم.
.
ولم تقتصر طريقة تدريسه علي تقديم المواد فحسب بل شملت الجانب التطبيقي الذي مكن تلاميذه من التألق والتفوق في مشوارهم التربوي، بفضل المنهجية التعليمية المحكمة و السلسة التي كان ينتهجها و التي كانت تجمع في آن واحد شمائل المدرس المقتدر والأخ الودود و الصديق و المسعف وغيرها من الخصال الحميدة.
فكان يحضر العلاج للتلاميذ ويشرف علي غذائهم لإحاطتهم بتدريس نوعي، مكتمل في كل أبعاده، الشيء الذي آتي أكله بعد ذلك، حين تقلد أبناء المقاطعة اسمي مناصب الدولة الوليدة.
فكان بمثابة الأسرة الثانية للتلاميذ، الذين يجدون فيه الحنان و العناية، حيث أنهم يشتاقون العودة إلي الأقسام في أسرع وقت لكسب المعارف المتدفقة من رجل يحرص كل الحرص علي تأدية الرسالة التربوية النبيلة علي أحسن وجه وبأمثل وأيسر الطرق الاستيعابية.
ومن الذين تعلموا علي يده وتألقوا، اطر كثيرين، محامون واداريون و معلمون وضباط سامون وفنيون في الطيران و مهندس....
.
ونذكر منهم هنا علي سبيل المثال لا للحصر، المحامي و الشيخ البرلماني السابق محمد يحي ولد عبد القهار، اللواء السابق محمد ولد الهادي، والفني الكبير في الطيران عبد الرحمن ولد الحمد والإداري المحنك المرحوم احمدو ولد محمد سلطان و العقيد المغفور له محمد ولد احمد عبد والاداري المالي سيد احمد ولد بكاي والعقيد أباه ولد صمبه وغيرهم من خيرة ما أنتجت موريتانيا العصرية من أبناء، استطاعوا ان يواكبوا بسواعدهم ومعارفهم العولمة المتسارعة بعد الاستغناء التدريجي و المحكم عن المستعر.
وساهم المرحوم محمد الأمين ولد محمد الأمين في كل الأنشطة التي قيم بها في مقاطعة اوجفت في إطار تمنيتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وفك العزلة عنها.
فأصبح العديد من الممرتات الرملية والجبلية الوعرة آنذاك (تورفين، اسكنجيل، تونكاد، تيمنيت وغيرها)، طرقا سهلة و متطورة بفضل جهود أبناء المقاطعة، بتشجيع و نصح و توجيه وعون معنوي ومادي من المرحوم.
طرق تم تشييدها بعناء كثير حيث كان الرجال يجلبون الماء علي رؤوسهم من مسافات بعيدة، كل حسب دوره، في جو من التآخي والمساواة والاحترام المتبادل والعزيمة علي رفع التحديات.
ليس كل هذا، إلي القليل من الكثير في شأن شخصية وطنية بكل المقاييس، لاتستحق اطلاقا النسيان، خاصة من أبناء مقاطعة أوجفت، المقاطعة التي سخر الغالي والنفيس لكي تصل إلي ما هي عليه اليوم من عبقرية لدي التلاميذ و إنتاج للأهالي وحضور متميز في شتي مقاليد الحكم.
محمد ولد محمد الأمين