نواذيبو (موريتانيا)/ عبيد أميجن/ الأناضول
تفصل سبع كيلومترات مدينة “لكويرة” الواقعة بأقصى الجنوب الغربي لإقليم الصحراء الغربية المتنازع عليه بين المغرب والبوليساريو، عن العاصمة الاقتصادية لموريتانيا “نواذيبو”، وهنالك تصمد صفحة تاريخية مفتوحة يتملك هاجس طيها الخوف لدى كثير من سكانها، الذين هجرهم الجيش الموريتاني قبل أكثر من أربع عقود، بسبب الحرب بين مقاتلي جبهة “البوليساريو” (الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب) والجيش الموريتاني.
تلك المدينة المطلة على المحيط الأطلسي، كانت قبل عشرات السنين مزدهرة تجاريا لاسيما إبان الاستعمار الإسباني (1884- 1975)، وعامرة بالناس، حيث بلغ عدد سكانها حينها 8 آلاف نسمة، وتحولت على مدار أكثر من أربعة عقود إلى ما يمكن وصفه بـ”مدينة الأشباح” بعد أن أصبحت خالية من سكانها الذين تم تهجّيرهم بعدما آلت ادارتها إلى موريتانيا، عقب بدء النزاع الثلاثي عليها اثر زوال الاحتلال الاسباني، فيما يعتبرها المغرب جزء من حدوده الجنوبية، أما جبهة “البوليساريو” فتعتبر المدينة “وديعة” لدى موريتانيا طبقا لاتفاقية الجزائر، الموقعة في 1979، و جزءا من الإقليم الذي تطلق عليه “الجمهورية العربية الصحراوية”، والذي تطالب بإدارته.
ومنذ ما يزيد قليلا على الـ 40 عاما الماضية، اضطر سكان المدينة إلى النزوح صوب مدينة “نواذيبو” في الداخل الموريتاني ومنها إلى مقاصد شتى، حيث تم إخلاء المدينة من السكان والتجار، قبل أن يتم إلحاق “لكويرة” إداريا بمحافظة “نواذيبو” الموريتانية في أغسطس/ آب 1979 بعد توقيع اتفاق السلام في الجزائر، والذي بموجبه خرجت موريتانيا من حرب الصحراء الغربية، في انتظار تسوية نهائية للقضية الصحراوية برمتها.
“اسْوَيْلْكَه لعْروسي”، واحدة من سكان المدينة، وإحدى عناصر المقاومة والتي غادرتها مكرهة وهي شابة، تروي للأناضول قصتها التي مر عليها أكثر من 4 عقود قائلة: ” وفـي لحظة مـا فتحنا اعيننا فوجدنا القوات المغربية توجه الينا مدافعها من على رَبْوَةِ تُورْ أبْلَيْه Tour Bleu،بينما كانت العساكر الموريتانية تدلف إلى داخل المدينة وتعمل على ترويع وإخافة الجميع، كانوا يبحثون بين السكان وداخل البيوت عني”.
وتضيف “اسْوَيْلْكَه لعروسي” “بعد ذلك فر الكثير من الرجال إلى الجزائر فتوقفت المقاومة نهائيا (..) لقـد كنت وغيري من النساء مسلحات وعلى استعداد للمواجهة قبل أن يتم أسرنا واقتيادنا إلى نواذيبو، ومنذ الإفراج عني وأنا أعيش هنا انتظارا ليوم العودة إلى لكويرة”.
وتعود اسْوَيْلْكَه لعْروسي، للوراء عشرات السنين فتتذكر بحرقـة كيف كان حال مدينة “لكويرة” حيث عملت تاجرة لبيع الذهب في محل والدها، والذي وصفته بأنه كان “عامرا ومزدهرا شأنه فـي ذلك شأن المدينة، التي كانت ذات طابع عمراني فريـد في محيطها، وتعـج بالبضائع والسلع مما يغري الزوار والسواح القادمين من إسبانيا ومن موريتانيا وغيرها بالتوافـد عليها للتسوق والبحث عن البضائع التي تنفرد بها المدينة”.
وصفت اسْوَيْلْكَه لعروسي المدينة بأنها “كانت بمثابة منطقة حرة، بل إن البعض كان يفضل نمط الراحة والاستجمام فيها؛ حيث الشواطئ النظيفة والسمر التقليدي (..)، اليـوم أصبح المكان مهجورا، والبيوت خرابا، والمدينة في وضع مزر، كما قيل لي أن الرمال زحفت عليها من كل مكان”.
أما الشاب “أمبارك المسعودي”، المنحدر من “لكويرة”، فقـد أعرب عن رغبته في العودة لمدينته؛ قائلا للأناضول: “حدثني أبي كثيرا عن الثروة التي كنا نملكها هناك ما يدفعنا إلى العودة لمحالنا ومنزلنا (..) باختصار نحـن سكان لكويرة نريد العودة إلى مدينتنا”.
وبسبب استمرار النزاع على الإقليم وغموض مصير المدينة بين مطالبة كل من البولبساريو وموريتانيا والمغرب بالحق في إدارتها، ترفض موريتانيا عودة السكان إلى البلدة.
وعلى إثر توقيع اتفاقية السلام بين جبهة البولِيساريو وموريتانيا ( 1979) بسـطت المملكة المغربية سيطرتها على المدن المأهولـة في وادي الذهب (جنوب إقليم الصحراء الغربية)، فيما امتنعت قواتها إراديا عـن اجتياح “لكويرا”، وهو ما أرجعه عبد المجيد بلغزال، عضو ما يسمى بالمجلس الملكي الاستشاري لشؤون الصحراء الغربية (مغربي حكومي) في تصريحات للأناضول إلى طلب تقدمت به فرنسا (المستعمر السابق لموريتانيا) للرباط، من أجل تفادي خنق الاقتصاد الموريتاني، والذي يعتمد على ميناء “نواذيبو” القريب جدا من لكويرة.
وفي نفس الاتجاه، قال المحامي والروائي الموريتاني محمد ولد أمين للأناضول إن “اجتياح لكويرة يمثل حسرا لموريتانيا في الزاوية ودفعها لمواجهة المغرب، في حيـن كانت نواكشوط في تلك الحقبة الصعبة تسعى للتنصل من الملف الصحراوي، بعدما استنزفت حرب الصحراء الغربية الموارد الاقتصاديـة لموريتانيا وما خلفته من انعدام استقرار سياسـي لا تزال مظاهره بادية حتى اليوم.”
وخلال الفترة الماضية يبدو أن تحريك ملف “لكويرة” من قبـل الحكومات المعنيـة بالنزاع على حيازة إقليم الصحراء الغربية قــد قطع الهدوء الذي يخيم على شبه جزيرة الرأس الأبيض (الذي يضم لكويرة ونواذيبو المطلتين على سواحل المحيط الأطلنطي)، فعلى مدى العامين الأخيرين اضطـرت الرباط مرتين إلـى طلب ايضاحات من نواكشوط حول صحة الأنباء المتداولة حول رفع العلم الموريتاني في سماء المدينة التـي يعتبرها المغرب الطرف الجنوبي من حوزته الترابية.
في المقابل، نفت موريتانيا بشكل قاطع تلك المعلومات ورأت أن وضـع “لكويرة” لـم يحن وقت الحسم فيه نهائيا؛ وهـو ما عبـر عنه المحلل السياسي الموريتاني، محمد بابا ولد أعلاتي، في حديث للأناضول، قائلا: “المعادلة الجيو-استراتيجية، تقتضي أن تبقى موريتانيا حذرة وصارمة في الوقت نفسه، لكن من الوارد التأكيد على أن سكان المدينة هم موريتانيون، وأغلبهم انتظم في جمعيـة تسعى للحصول على تعويضات من الدولة الموريتانية، بينما القلة هي التي تشردت أو اختارت مخيمات اللاجئين لدى البوليساريو، وسبـق لسكانها وأن اختاروا الوقوف إلى جانب بلدهـم موريتانيا”.
وأضاف أعلاتي أن “سكان المدينة سيكونون رقما صعبا فـي أي استفتاء قادم (الاستفتاء الذي دعت إليه الأمم المتحدة لتقرير مصير إقليم الصحراء الغربية)، وهـو ما قـد يظهـر لاعبا ثالثا ليس غبيا وليس من الضعف بمكان بحيث لا يحصل على نصيبه المبرر أمنيا وتاريخيا”.
عقود طويلة من ممارسة الوصاية الموريتانية على “لكويرة”، التي أصبحت مصدر خلاف صامت بين المغرب وموريتانيا، أما “البوليساريو” فتعتقـد أن المدينة تبقـى “وديعة” لدى نواكشوط انتظارا لمسألة تقرير المصير في شكله النهائي، وعلى النقيض منهما فإنه من النادر أن تتحدث الحكومة الموريتانية عن الوضع الخاص بالمدينة، فيما يرى الكثير من المتابعين أن هذه الحاضرة ستشكل استثناء ضمـن أي حل قادم.
منذ اندلاع النزاع حول حيازة إقليم الصحراء عام 1975، أُبعد النشاط البشري عن المكان فتحولت “لكويرة” إلى مدينة مهجورة يسكنها الأشباح، بينما ترابط على مداخلها حامية من الجيش الموريتاني، وتنشط دوريات البحرية المغربية على سواحل شبه الجزيرة، وهي شواطئ شديدة كثافة الأسماك وهو ما يغري بها الصيادين غير الشرعيين.
وتمتلك مدينة “لكويرة” أجواء بحرية وحيوية نادرة حيث يخيم على أطلالها طيلة العام جــو معتدل؛ لا تقطعه سوى رياح الكناري الباردة (رياح قادمة من جهة جزر الخالدات في المحيط الأطلسي).
وأبقى المستعمرون الإسبان في المدينة عدة أبراج للمراقبة الأمنيـة ومـدافع عملاقة يعـود بعضها للعام 1911 بالإضافة إلى آثار أبرشيـة تابعة للكنيسة الرومانية الكاثوليكية أقامتها الجالية الإسبانية خلال ستينيات القرن العشرين، كما يشكل الميناء القديـم معلـما بارزا، فبعدما كان نقطـة هامة للتبادل التجاري على محور إسبانيا- الكناري- ماديرا- البرتغال وموريتانيا، أصبـح مرفقا مهجورا، وبالإضافة إلى ذلك أبقى المعمرون بيوت العائلات ومحال تجاريـة لا زالت بعض شواهدها بارزة.
المصدر : وكالة انباء الاناضول التركية.