كذاب ربيعة..وصادق مُضر

أحد, 09/18/2016 - 14:24

يطرح المشهد السياسي بين الفترة والأخرى شخصيات قيادية غريبة الأطوار تقلب الأمور من النقيض إلى النقيض، وتصر على أن تخط مسارا للبشرية،طبعا في الاتجاه السالب،وأن تضع بصمتها في سجل التاريخ عبر سياسات ومواقف وتدابير تهدم البنيان،وتدع الحليم حيران! ومرد الحيرة إلى أن العقل السليم لا يتصور مشروعا ناجحا أو سياسة حكيمة دون بذل وتضحيات، وتقلب بين التجارب القاسية و الخبرات المُرة.

ولا يلبث المتصفح لسجل التاريخ الإنساني أن تطالعه بين ثنايا الأحداث الكبرى تفاصيل مثيرة لبعض من آمنوا بالمحاكاة الفجة التي يتحقق فيها البناء والمجد بالكذب والتلفيق والتلون والاستخفاف بعقول البسطاء وآمالهم. غير أن ذروة الإثارة هي لحظة انضمام من كانوا في عداد العقلاء وذوي الرأي والحصافة إلى الجحفل البائس ،وصوغهم لمعاذير أقبح من الزلة.

في التاريخ الإسلامي تتجاوز قصة مسيلمة الكذاب إطارها التاريخي لتنبعث مجددا في فضائنا السياسي و الإعلامي عبر شخوص ومواقف مماثلة.كما تُمدنا بنموذج للبيب حين يؤثر الانحياز للتكتل الخاسر رغم علمه بتهافت مقولاته ومبرراته. وإذا كان التاريخ خطاب الماضي للحاضر فلا غرابة أن تندس في تفاصيل الخطاب بذور الشر لتطل النبتة الكريهة كلما توافرت مقومات الإنبات ،والمناخ الملائم للغرس!

يحكي ابن هشام في السيرة أن مسيلمة لما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتاه في وفد من بني حنيفة, وكان في يد النبي صلى الله عليه وسلم عسيب من نخل، رد عليه قائلا “لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه”،فلما انصرف الوفد ارتد مسيلمة وتنبأ وادعى أنه أُشرك في الأمر مع رسول الله، وكتب إليه كتابا جاء فيه “من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله. سلام عليك،أما بعد فإني أُشركت في الأمر معك،وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ولكن قريشا قوم يعتدون”.

وما يُستشف من هذا الخبر أن الانتشار الواسع الذي حققته الدعوة المحمدية في زمن قياسي حرك الطموح السياسي لبعض من رأوا فيها تجليا لسيادة قريش على باقي القبائل العربية، فسعوا إلى تحصيل مكاسب تُحصن بنيانهم السياسي والقبلي والاجتماعي. بل إن ما تسعفنا به بعض المصادر بشأن الجو الثقافي والديني السائد في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، والتقدير الذي حظي به مسيلمة في منطقة اليمامة(1) يؤكد قناعته بأن النفوذ الديني مدخل للنفوذ السياسي مما حذا به لادعاء النبوة،وتحريك العصبية القبلية.

بقية القصة معروفة لدى المسلمين عموما،وتداولها على نطاق واسع أضفى عليها سمات الحكاية الشعبية التي لا تخلو من المبالغة،والتصوير الكاريكاتوري الممعن في تقزيم الشخصية. بيد أن ما يعنينا هنا هو دور بعض من يُفترض أنهم من ذوي الحكمة وسلامة الرأي،والذين كانوا على يقين بأن مسيلمة كذاب،  لكنهم قرروا الانحياز إليه وتزكية دعوته.

أما الشخصية الأولى فهو نهار الرجال بن عنفوة.قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وقرأ القرآن ثم بعثه النبي معلما لأهل اليمامة ومحذرا لهم من كذب مسيلمة وافترائه،لكنه ما إن وطئ أرض اليمامة حتى ارتد وزعم أنه سمع محمدا صلى الله عليه وسلم يقول “إن مسيلمة قد أشرك معه” فصدقه الناس وأطاعوه،فاتخذه مسيلمة مشيرا وناصحا.بينما يمثل الشخصية الثاني طلحة النمري الذي سأل مسيلمة عن آية نبوته فأخبره أن رجلا يأتيه في ظلمة،فقال قولته التي سارت مثلا في التعصب المذموم و خطل الرأي “أشهد أنك الكاذب وأن محمدا صادق،ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر”.

كلا الرجلين عنوان على دور المثقف والفاعل الاجتماعي و السياسي في تخصيص قدراته ومهاراته، وإسداء خدماته لقادة الباطل ضدا على ما يفرضه العقل والمنطق السليم.وهو تصرف يعجز المرء أحيانا عن تفسيره أو تبريره،لأن للمعرفة والوعي دورهما في حمل الفرد على لزوم السداد قولا وأداء،لكنه السعي وراء مكاسب هشة والرهان على ما يسميه الدكتور جاسم سلطان بالروافع المتوهمة التي تخون صاحبها لحظة الحقيقة ومواجهة الواقع(2).

وفي خبر كذاب اليمامة كان الرهان على المحاكاة الفجة لخطى النبي صلى الله عليه وسلم في نشر الدعوة،والتفاعل اليومي مع الأشخاص والأحداث دليلا على تهافت هذه الحركة التي لولا النعرة القبلية وميزة الاستقطاب لما التفت حولها بنو حنيفة.ومن أمثلة المحاكاة كما أوردها ابن الأثير في مصنفه الشهير ( الكامل في التاريخ) نقرأ ما يلي :

” أتته امرأة فقالت: إن نخلنا لسحيق وإن آبارنا لجرز،فادع الله لمائنا و نخلنا كما دعا محمد صلى الله عليه وسلم لأهل هزمان. فسأل مسيلمة النهار بن عنفوة عن ذلك فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لهم وأخذ من ماء آبارهم فتمضمض فيه،ومجه في الآبار ففاضت ماء وأنجبت كل نخلة.ففعل مسيلمة ذلك فغارت الآبار ويبس النخل بعد مهلك مسيلمة.وقال له النهار : أمِرَّ يدك على أولاد بني حنيفة مثل محمد،ففعل وأمرَّ يده على رؤوسهم وحَنَّكهم فقرع كل صبي مسح رأسه،و لثغ كل صبي حنَّكه.وإنما استبان ذلك بعد موته.”(3)

لو تعلق الأمر بزعيم قبيلة شق عصا الطاعة وتبنى حركة تمرد ضد النظام المركزي للدولة الإسلامية لكان لرد الفعل هذا مبرراته بالنظر إلى ما شهده تاريخ الدول و الممالك من تجارب مماثلة.لكننا هنا أمام زعيم قبيلة راهن على ادعاء النبوة كمدخل استراتيجي لتحقيق إنجاز مماثل للذي حققه محمد صلى الله عليه وسلم، دون إدراك للفروق الجوهرية بين النبوة المسددة بالتوفيق الإلهي، والزعامة الدنيوية الهشة.

وأهم هذه الفروق يكمن في التضحية المسيجة بيقين لا نظير له بالنصر والوعد الإلهي،وعظمة الجماعة التي يتوافر فيها من الصفات والسجايا والقدرة على تجسيد المبادئ في أرض الواقع ما يندر تحققه لغيرها.فالرسول صلى الله عليه سلم هيأ للدعوة نماذج فائقة،تحررت بداية من انحرافات المجتمع الجاهلي لتستوعب عناصر التربية الإسلامية بتمامها،ثم لتمضي إلى أقصى حدود طاقتها الذاتية في البناء والعطاء و إعلاء صرح الدعوة.

بل يُخيل للمرء أن ألوان العظمة التي امتاز بها الرعيل الفريد ضرب من التماهي بين المثال والواقع إلى الحد الذي يُخرج الجماعة الأولى عن طور البشرية !(4)

كان المعطى التربوي إذن حاضرا في البناء النفسي والاجتماعي،وتشكيل القناعات،وإزالة انحرافات الفطرة عن مسارها الاعتقادي والأخلاقي السوي.إن هذه الولادة الثانية للكائن الإنساني هي جوهر الثبات على المبدأ،ونكران الذات,وبذل النفس و المال في سبيل بلوغ الحركة مراميها.

مشهدان في وقعة اليمامة يوجزان ثمار اللحظة المفصلية لمقولات كل من الصادق و الكذاب لحظة ارتطامها بصخرة الواقع ومجابهة الأحداث:

 مشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يُعنف ابنه عبد الله لأنه لم يُستشهد قائلا: هلك زيد وأنت حي! ألا واريت وجهك عني !

ثم مشهد بني حنيفة وهم يصيحون لحظة الهزيمة:أين ما كنت تعدنا يا مسيلمة؟ فيرد : دافعوا عن أحسابكم.

و لكلا المشهدين صدى يتردد اليوم في جنبات واقعنا السياسي العربي،بين مشروع ديدنه البناء و العطاء وتحمل صنوف البلاء, وآخر يصدر عن نزوة الحكم و الانفعال الهائج !

 
حميد خبيش