على الرغم من توافق الجميع بأن التغلغل الإسرائيلي بلغ مداه على الساحة الإفريقية، إلا أن تصريحات “نتنياهو” فيها ما هو مثير للغرابة بأن بلاده سوف تعود من جديد إلى إفريقيا بعد أن كانت مغلقة عليهم منذ زمن بعيد. فهل حقاً إسرائيل لم تكون موجودة على الساحة الإفريقية؟ وأن جميع ما كُتب وبُحث فيه كان تضليلاً للرأي العام العربي!.الأهم من ذلك … ما هي الأولويات الإسرائيلية في إفريقيا؟، ثم كيف نقرأ خطورة الرفض العربي للتحركات الإسرائيلية في القارة الإفريقية؟.
حاول البعض التقليل من أهمية جولة “نتنياهو” لكل من أوغندا وكينيا ورواندا وإثيوبيا، ولقائه مع قادة جنوب السودان وتنزانيا وزامبيا في أوغندة، لإعتبارات كثيرة، يرجع بعضها لقوة التأييد الإفريقي للقضية الفلسطينية، كما وصفها البعض الآخر بالفشل لعدم منح إسرائيل عضوية المراقب في منظمة الإتحاد الإفريقي.
وما أعتقد به هو أن إسرائيل لم تخرج من القارة الإفريقية بعد حربي (1967، 1973)، كما يرى بعض الباحثين، وما حدث كان مُقتصراً فقط على المقاطعة الدبلوماسية، كما ولم تكن لهذه المقاطعة تأثيراً سلبياً بشكل مباشر على الوجود الإسرائيلي في القارة، ويرجع ذلك إلى الإستناد الإسرائيلي على ثلاث قوى مغروسة لها على الساحة الإفريقية:
1. قوة الوجود الأمريكي.. على خط الوسط الإفريقي، ما بين شرق إفريقيا (إثيوبيا) وغربها (نيجيريا).
2. قوة المؤسسات المالية.. التابعة للجالية اليهودية في إفريقيا، ويظهر ذلك في منطقة دول جنوب إفريقيا.
3. قوة العلاقات الشخصية.. القائمة بين رجالات الدولة الإسرائيلية مع الكثير من القيادات الإفريقية، والتي هي الأفضل والأنفع من العلاقات الدبلوماسية مع بعض الأنظمة الإفريقية.
إسرائيل لم تخرج من القارة الإفريقية بعد حربي (1967، 1973)، كما يرى بعض الباحثين، وما حدث كان مُقتصراً فقط على المقاطعة الدبلوماسية
والقول بأن إسرائيل متواجدة على الساحة الإفريقية لا يتعارض مع تصريحات “نتنياهو” بشأن عودة بلاده من جديد، والتي يُمكن وصفها بعملية إعادة الإنتشار الإسرائيلي، مع تجديد الرؤية والأهداف تجاه القارة الإفريقية، ومن أهم الأسباب لتلك الخطوة:
1. الإنشغال الأمريكي.. عن القارة الإفريقية، أو يُمكن القول بأن السياسات الأمريكية المُتبعة في إفريقيا محدودة على بعض الدول، وثمارها بعيدة المدى، حيث تعتمد على البرامج التطويرية في قطاعي الصحة والتعليم.
2. الأزمات المالية الكبيرة.. التي ضربت الإقتصاد العالمي، والتي لها دور في إنشغال اليهود الأفارقة عن إلتزاماتهم مع إسرائيل من أجل الحفاظ على قوة مؤسساتهم المالية في إفريقيا.
3. التحركات الفلسطينية.. على الساحة الإفريقية، فقد أصبحت تحركات الرئيس الفلسطيني محمود عباس في القارة الإفريقية أشبه بكابوس على مستقبل إسرائيل مع الأفارقة.
بالإضافة إلى التحركات العربية المُتجددة على الساحة الإفريقية، والتي تتنوع بين الدبلوماسية المغربية الناعمة من أجل العودة للإتحاد الإفريقي، ويلحقها التحالف العسكري (السعودي الإماراتي) في اليمن، وضم بعض من الدول الإفريقية للتحالف العسكري الإسلامي، بالإضافة إلى الرقابة المصرية السودانية المُكثفة لكافة أحداث دول منبع ومصب نهر النيل، كما أن التوغل الإماراتي للقارة عبر حزمة من الإستثمارات الضخمة أمر لا يُستهان فيه.
ولكن السؤال : ما هي الألويات الإسرائيلية تجاه تلك الدوافع المذكورة، ما بين الإنشعال الأمريكي والتحركات العربية في إفريقيا؟، وخاصة التحرك الفلسطيني؟.
لا شك أن جميع الدول المُدرجة بزيارة “نتنياهو” تتمتع بعلاقات قوية مع أمريكا وإسرائيل سواء على المستوى الدبلوماسي أو الشخصي، ولكن بعد الإطلاع على مجموعة من النقاط سوف يتضح لنا أن هذه الزيارة سوف تعمل على حصر إسرائيل في الشرق الإفريقي، وأن الإختيار الجغرافي ليس موفقاً ليكون نقطة الإنطلاقة والعودة إلى إفريقيا، كما قال “نتنياهو”، وهي كالتالي:
1. شعوب منطقة الشرق الإفريقي تتمتع بالإفريقية كهوية وليس كعرق، وهم في المنظور الإفريقي خليط بين الافريقية والعربية، حيث ليس من السهل قبول دورهم السياسي على مستوى القارة الإفريقية بحكم الإختلاط العرقي.
2. تضمن خطاب “نتنياهو” بعض الجوانب الإقتصادية، والذي احتوى على عبارات العطاء للأفارقة أكثر من الإستفادة الإسرائيلية، وهذا ينبع من إدراكه أن هذه الدول لا تصلح لتبني المشاريع التنموية، بل هي معطلة بطبعها، وهي دول تتبنى المشاريع السياسية الخارجية أكثر من المشاريع التنموية الداخلية.
3. تسعى جنوب إفريقيا لإحكام سيطرتها على القارة الإفريقية، وأن الدخول للقارة مرهون بتفاهمات مع عاصمتها بريتوريا، وما فعله “نتنياهو” يعتبر تجاوز لكافة دول جنوب إفريقيا، ولن يكون تقييم جنوب إفريقيا لهذه الزيارة إلا بإتجاه واحد، وهو أن الأمريكان والإسرائيليين يسعيان لشق الوحدة الإفريقية وإختراق القارة عبر الثغرة الشرقية من الجهة الإفريقية.
إختيار “نتنياهو” للشرق الإفريقي غير مُوفق إن كان فعلاً من أجل العودة إلى إفريقيا، بل له الكثير من السلبيات على علاقات إسرائيل مع الكثير من دول القارة خاصة في الجنوب.
وعليه يُمكن القول؛ بأن إختيار “نتنياهو” للشرق الإفريقي غير مُوفق إن كان فعلاً من أجل العودة إلى إفريقيا، بل له الكثير من السلبيات على علاقات إسرائيل مع الكثير من دول القارة، وخاصة في الجنوب الإفريقي.
وجميع ما ذُكر يجعلني أتقرب أكثر من الفرضية التي ذكرتها في بداية التقرير، بأن إسرائيل موجودة في إفريقيا ولم تخرج بالشكل الذي يتصوره البعض، وأن “نتنياهو” يعمل على عملية إعادة الإنتشار في القارة، حيث يتضح ذلك من خلال ما علمته حول محاولات “نتنياهو” لعقد مصالحة بين إريتريا وإثيوبيا.
حيث أن المصالحة بين إريتريا وإثيوبيا أمر معقد وليس من السهل البحث فيه، ولكن لو نجح الإسرائيليون في ذلك، فهذا يعني بداية تشكيل نواة لتحالف مستقل لدول الشرق الإفريقي، والمُؤثرة بالشكل المباشر على مضيق باب المندب ومياه النيل والصومال وجنوب السودان، وبشكل غير مباشر على بعض من قرارات الإتحاد الإفريقي.
أعتقد أن الإجابة على السؤال المطروح أخذت تتضح بأن أولويات زيارة “نتنياهو” لم تكن بسبب الإنشغال الأمريكي عن القارة الإفريقية بقدر ما هو مواجهة التحركات العربية الأخيرة على مستوى القارة الإفريقية، فما يُقلق إسرائيل من هذه التحركات هو كالآتي على الترتيب من حيث الأكثر أهمية:
1. الإمتداد الفلسطيني للكثير من الدول الإفريقية، وعلى رأسها جنوب إفريقيا.
2. التدخل المصري السوداني بأحداث جنوب السودان وبعض من دول حوض النيل.
3. إقتراب الجيش السعودي الاماراتي من مضيق باب المندب.
4. الإسثتمارات الاماراتية الضخمة في منطقة جنوب إفريقيا.
5. عودة المغرب للإتحاد الإفريقي كقوة عربية ناعمة قد تعوض إنشغال مصر بدول حوض النيل.
الوجود الإسرائيلي في القارة الإفريقية قديم جداً، ومرتبط بقوى وأنظمة سياسية ومالية عالمية، بينما الدخول العربي حديث النشأة، ويُمكن وصفه بالفردي وغير متوافق عليه بين جميع العرب.
وما هو الأهم من ذلك؛ وللبحث في خطورة الرفض العربي للتحركات الإسرائيلية في القارة الإفريقية بشكل مُطلق وغير مدروس، وليس في قولي هذا دعوة للتطبيع العربي مع إسرائيل، ولكن هي دعوة واضحة للنظر إلى الساحة الإفريقية بنوع من العقلانية، وبشكل مختلف مما هو عليه في الساحة العربية، من حيث ما يلي:
1. الوجود الإسرائيلي في القارة الإفريقية قديم جداً، ومرتبط بقوى وأنظمة سياسية ومالية عالمية، بينما الدخول العربي حديث النشأة، ويُمكن وصفه بالفردي وغير متوافق عليه بين جميع العرب.
2. آلية العمل الإسرائيلية في إفريقيا مُتقدمة وتجاوزت السياسة والمال، حيث وصلت إلى مرحلة صناعة ما يحتاجه الأفارقة، وخاصة في مجال تكنولوجيا التعدين والمياه والزراعة والأمن.
3. التواصل الإسرائيلي مع الكنائس الإفريقية وصل إلى مرحلة الحوار والتوافق، بينما التواصل العربي ما زال مقتصراً على مسلمي إفريقيا، وليس بالشكل المطلوب الذي يحقق الأهداف السياسية العربية.
وخلاصة القول فأن التحركات العربية الأخيرة على الساحة الإفريقية تميزت بالقوة المُؤثرة على القوى العالمية المتواجدة والمتوجهة نحو إفريقيا، فالعسكرية السعودية الإماراتية في اليمن وقربها من مضيق باب المندب، والحراك السياسي المصري السوداني مع دول حوض النيل، والدبلوماسية المغربية الناعمة للعودة للإتحاد الإفريقي أصبحت مصدر قلق بالغ لإسرائيل، كما أن إنضمام بعض الجيوش الإفريقية للتحالف العسكري الإسلامي ومساندة الكثير من الدول الإفريقية للقضية الفلسطينية هو مصدر قلق آخر للقوى العالمية وليس لإسرائيل فقط.
لكن هذا لا يعني أن التقدم العربي كفيل بملاحقة إسرائيل أو طردها من القارة الإفريقية، ومن أجل الحفاظ على الجديد العربي، يجب أن يكون هناك نوع من التفاهم والتناغم مع توزيع الأدوار، حيث يجب أن يدرك العرب جيداً بأن الأمن القومي العربي أخذ ينتقل على البوابات الإفريقية، وأن الإستراتيجية العربية تجاه القارة الإفريقية لا تقل شأناً عن الإستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية، ولا بأس أن ننظر إلى الأولويات الإسرائيلية والإستفادة منها لتكون ذات مصلحة للأولويات العربية شريطة أن نعلم جميعاً أن الرفض العربي المُطلق للوجود الإسرائيلي على تلك الساحة هو نصرة لليسارية والإشتراكية، والتى هي بأصلها تهدد الأمن القومي العربي بشكل مريب وخاصة في العراق وسوريا.
بلال الصباح