أول مرة رأيت فيها السيد المصطفى ولد محمد السالك كانت سنة 1962 خلال محاكمة حوادث النعمه بالحوض الشرقي، وأذكر أن ذلك كان في المساء. وكانت له آنذاك سمعة، لا أقول إنها كانت طائرة، لكنها كانت متميزة وهي تعود لرتبته العسكرية فهو أول ضابط سام في تلك الفترة؛ فترة الاستقلال وبناء جيش وطني مستعد للدفاع عن الوطن.
وكان إلى جانب رتبته العسكرية يعتبر من قبل السياسيين، وخاصة الرئيس المختار ولد داداه، من الشخصيات المحورية في تلك الظرفية المتميزة غداة استقلال موريتانيا، وفي ظل ما تواجهه من تحديات جسيمة تتعلق حتى بوجودها.
ومنذ أن رأيته عرفته دون أن يعرفني، وانقطعت الصلة بيننا فترة من الزمن، حيث ذهبت أنا إلى الخارج من سنة 1962 إلى 1967؛ ولما عدت التقيت به، حيث جاء الوالد سيدي ولد هنون الرئيس العام لأولاد داوود إلى نواكشوط والتقى بالمصطفى في منزل المرحوم اب ولد أنه، وقد وجدت معلومات عن لقائهما مفادها أنه كان لقاء حميميا إذ أن المصطفى رجل من المجموعة تعلم في المدرسة العسكرية الفرنسية التي لم يكن المتعلمون فيها كثيرين في تلك الفترة. وكان من المثقفين يومها حيث أن الدراسة آنذاك أفضل، بكثير، مما هي عليه اليوم.
وقد التقيت به في منزل كان مؤجرا له من طرف الدولة، وشربنا الشاي معا، وتعرفت على السيدة الفاضلة اليخير، ربة المنزل وعلى أسرتها وانتمائها القبلي، ثم افترقنا بعد تناول الشاي معا لكن الصلة بيننا لم تنقطع بعد ذلك.
يذكر الناس الكثير من الخصال الحميدة التي كانت تميز الرجل من صدق ونزاهة واستقامة، وانضباط غير محدود، سواء على المستوى الديني أو الأخلاقي، وإيمان بالوطن..
حسب فهمي الشخصي، كان الرجل يحظى باعتبار كبير لدى الرئيس المختار ولد داداه.. واستمرت علاقتنا حيث تم تعيينه في عدة وظائف، وأذكر أننا التقينا أثناء توليه إدارة شركة سونمكس، والتقينا بشكل خاص حين كان واليا في النعمه، واحتكيت به كثيرا حيث كنت عضوا في المجلس الاقتصادي الجهوي في ولاية الحوض الشرقي.. التقينا خلال الاجتماعات الرسمية و في المناسبات الخاصة التي تجمع المهتمين بمصير البلد ومستقبله المضطرب آنداك، في ظل صراعات إقليمية حادة.
استمرت الأمور إلى أن اندلعت حرب الصحراء، ولم أكن في موريتانيا عند ما بدأت الحرب سنة 1976، وكنت أقود صراعا آخر على الجبهة الدبلوماسية بالجزائر وأنا على رأس البعثة الدبلوماسية هناك. وكان أول مقال ينتقد موريتانيا على موقفها من موضوع الصحراء قد نشر في دجنبر سنة 1976 في صحيفة المجاهد الجزائرية بعنوان: "المختار ولعبة الطوبين"؛ حيث كنت مكلفا بالملف العسكري والمدني في السفارة بالجزائر العاصمة وكنت الوحيد هناك.. وقد مررت بما يمر به أي شخص في الغربة بكل أبعادها؛ الغربة السياسية والغربة الدبلوماسية والغربة الشخصية.. وعانيت من كل ما يترتب عن تلك الغربة من أمور لكم أن تتخيلوها وتقرأون أبعادها وملابساتها.
ولما عدت، في يوليو 1976، استقبلني الرئيس المختار ولد داداه وشكرني على الموقف الوطني الشجاع وطلب مني الاتصال بوزير الخارجية وكان اللقاء وديا للغاية.
اشتد وطيس الحرب وتفاقمت الخسائر المترتبة عنها على كافة المستويات: سياسيا، واقتصاديا، وعسكريا... حيث أقنع المصطفى الرئيس المختار و شخصيات نافذة في مركز القرار بأنه يريد ممارسة عمله المهني كعسكري، فالتحق بالمنطقة العسكرية بأطار وخاض أهم المعارك آنذاك وكاد أن يؤسر فيها من قبل البوليساريو.. وتم تعيينه قائدا للأركان وبعد ذلك وقع انقلاب 10 يوليو فبرز كزعيم للانقلاب وكنت، يومها، في السفارة الموريتانية في تونس.
وبما أنني كنت أواظب على الحضور عند وقت بداية الدوام الرسمي بشكل دقيق وأحضر للمكتب قبل الجميع، فقد رددت على اتصال هاتفي من وزارة الخارجية التونسية تسألنا فيه عن حقيقة الانقلاب الذي وقع في نواكشوط، فقلت لمن كان يتحدث إلى إنني لم أعلم بذلك، فأخبرني بأنهم تلقوا برقية عاجلة لم تكتمل بعد، تفيد بأن قادة الجيش أطاحوا بالرئيس المختار ولد داداه، فكان الخبر مفاجأة كبرى ولم يفاجئني الانقلاب على الإطلاق لأن الوضع تدهور إلى حد كبير، وكان لدي ملف الضباط الذين قتلوا في الحرب، والضباط الذين تم أسرهم.. ومعلوماتي الشخصية وتلك التي استقيتها من السياسيين تجعلني لا أستغرب وقوع الانقلاب.. كما أن الناس باتوا يتوقعون انقلابا عسكريا من يوم لآخر..
عدت إلى موريتانيا والتقيت بالرجل (المصطفى) أثناء غليان الثورة الإيرانية سنة 1979 أي بعد الانقلاب بأقل من سنة واحدة وتحدثنا بشأنها وخاصة حول الأوضاع الراهنة آنذاك في موريتانيا.
كان منشغلا بإقامة نوع من الديمقراطية التشاورية في البلد، وأسس مجلسا تشاوريا وطنيا موسعا ضم كل المكونات الوطنية، لكن البعض كان متعجلا في مجال تحليل الأمور.
وقد ألقى خطابا أمام المجلس الاستشاري الجديد أوضح فيه أن الجيش لا يريد البقاء في السلطة وإنما جاء لتحقيق السلام، وتقويم الاقتصاد الوطني، وإرساء مؤسسات ديمقراطية؛ وكان ذلك في بداية إبريل 1979.
ولكن سرعان ناهض البعض ذلك الاتجاه وخرج على القرار، ولما دخل عناصر من الجيش على الخط قدم الرئيس العقيد المصطفى ولد محمد السلك، زعيم الانقلاب، استقاته.
*أحمدٌ ولد سيدي ، وزير ودبلوماسي سابق(1979 ـ 2002)