قليلة هي تلك الأوقات التي استطاعت فيها الحكومات الموريتانية المتعاقبة أن تقيم علاقات حسنة ومتوازنة مع الجارتين الشقيقتين: الجزائر والمغرب. فكانت كلما تحسنت علاقتنا مع إحدى الشقيقتين، ساءت مع الثانية، وكأن ذلك هو قدرنا، هذا مع استثناءات محدودة تمكنا فيها أن نقيم، وفي وقت واحد، علاقات متوازنة وجيدة مع الجارتين الشقيقتين.
وبطبيعة الحال فإن المسؤولية في ذلك تتحملها أنظمة الدول الثلاث، وتتحمل الجارتان الشقيقتان المسؤولية الأكبر، لأن أنظمتهما الحاكمة ظلت تعتبر دائما بأن موريتانيا يجب أن تبقى ساحة خلفية لتصفية الحسابات والمعارك الدبلوماسية بينهما.
الجديد في هذه المرة، وهذا مما يقلق كثيرا، هو أن علاقة حكومتنا قد ساءت بحكومتي الجارتين الشقيقتين، وفي وقت واحد.
كنا نريد من حكومتنا أن تقيم علاقات حسنة ومتوازنة مع الجارتين الشقيقتين، فإذا بها، ولأسباب لم نستطع أن نفهمها، تقرر أن توازن في علاقتها بين الجارتين الشقيقتين، لا من حيث التحسن، بل من حيث السوء والتوتر.
تلكم كانت مقدمة لمقال كنتُ قد نشرته في يوم 4 مايو 2015 تحت عنوان "عاشت الأخوة الموريتانية الجزائرية"، وذلك بعد توتر العلاقة بين البلدين الشقيقين إثر طرد الحكومة الموريتانية لدبلوماسي جزائري في يوم الخميس 23 إبريل2015 أعقبه من بعد أربعة أيام طرد الحكومة الجزائرية لدبلوماسي موريتاني. هذه المقدمة التي كتبتها منذ عام وزيادة، أعيدها اليوم دون أي تحريف أو تبديل يذكر، بل إنه كان بإمكاني أن أعيد نشر المقال بكامله للتعليق على ما تشهده العلاقات الموريتانية المغربية من توتر في هذه الأيام، ولن أكون بحاجة إلى أي تغيير في المقال سوى أن أضع كلمة المغرب التي تشهد علاقتنا معها في هذه الأيام توترا كبيرا مكان كلمة الجزائر في النسخة الأصلية من المقال، والتي كانت علاقتنا معها قد شهدت توترا كبيرا في مثل هذه الفترة من السنة الماضية.
لا أحد كان يتوقع أن تسوء العلاقات الموريتانية المغربية في العهد الحالي، خاصة وأن الحكومة المغربية كانت هي أول من دعم انقلاب السادس من أغسطس 2008، والذي تربطها بقائده (الرئيس الحالي) علاقات متشعبة (الأصول؛ التكوين؛ المصاهرة). الغريب في الأمر أن علاقتنا بالمغرب لم تتحسن من بعد انقلاب السادس من أغسطس، ولكنها على العكس من ذلك فقد ساءت كثيرا، ويشكل ذلك لغزا من ألغاز هذا العهد التي يصعب فك طلاسمها.
ومن مظاهر توتر العلاقات بين النظامين في موريتانيا والمغرب: تقليص مستوى التمثيل الدبلوماسي بين البلدين؛ توقف تبادل الزيارات، فالملك محمد السادس لم يزر موريتانيا رغم أنه زار الدول المجاورة لها، والرئيس عزيز لم يزر المغرب منذ أن أصبح رئيسا، وذلك على الرغم من زياراته المتكررة للجزائر ولدول الجوار. وكذلك من مظاهر توتر العلاقة بين النظامين ما تحدثت عنه الصحافة مؤخرا من أن ملك المغرب رفض ـ وللمرة الثانية ـ استقبال وزير الخارجية الموريتاني، وقد تزامن ذلك الرفض مع سحب تراخيص موظفين مغاربة، ومنعهم من مزاولة أعمالهم في شركة "موريتل".
وفيما يخص سحب تراخيص العمال المغاربة فإنه قد جاء في ظاهر الأمر في إطار حملة واسعة تقوم بها الحكومة ضد تشغيل الأشقاء والأجانب في شركات تعمل على الأراضي الموريتانية، وبالتأكيد فإن مثل هذا الإجراء ليستحق الترحيب من طرف الجميع، حتى وإن كنا لا نستطيع أن نقدم تفسيرا لهذه الصحوة المفاجئة والمتأخرة للحكومة الموريتانية، والتي جعلتها تقرر بعد سنوات من التجاهل أن تضع حدا لتشغيل أشقاء أو أجانب في وظائف كان من المفترض أن تخصص لموظفين موريتانيين.
إن هذه الحملة التي تقوم بها الحكومة ضد بعض الشركات العاملة على الأراضي الموريتانية هي حملة تستحق التشجيع، وخاصة في شقها المتعلق بشركة "كينروس تازيازت"، ولذلك فإننا سنشجع أي إجراء تصعيدي تقوم بها الحكومة الموريتانية ضد شركة "كينروس تازيازت".
إن هذه الإجراءات التصعيدية المرحب بها تتنزل في إطار سلسلة أخرى من الإجراءات التصعيدية المتزامنة وغير المرحب بها، والتي لا نجد لها هي أيضا أي تفسير، خاصة وأنها جاءت في فترة زمنية حساسة كان من المفترض أن يعمل الرئيس خلالها على تهدئة الأوضاع، وعلى خلق جو تصالحي لضمان نجاح القمة العربية التي أكد اليوم على أنها ستنظم في موعدها (أخشى أن يكون هذا التأكيد مثل تأكيده في وقت سابق على أن الحوار سينطلق في موعده، وأخشى أيضا، إذا ما تأخرت القمة عن موعدها، أن يطل علينا الناطق الرسمي باسم الحكومة ليقول لنا بأن القمة العربية قد انطلقت منذ عشرة أيام!!).
فلماذا يصعد الرئيس ضد المعارضة بالإعلان الأحادي عن موعد الحوار؟ ولماذا يصعد ضد مجلس الشيوخ بالإعلان عن حله؟ ولماذا يصعد ضد رئيس اتحاد أرباب العمل بالمطالبة بعزله؟ ولماذا يصعد الآن ضد بعض الشركات مع أنه كان قد تغاضى لسبع سنوات عن تجاوز تلك الشركات للقانون؟ فهل يريد الرئيس بكل هذا أن يوتر الأجواء من قبل تنظيم القمة العربية أم أن هناك يدا خفية تعمل على تأزيم الأوضاع باحترافية عالية؟
ذلكم سؤال لا أملك الإجابة عليه، وقد طرحته هنا لأغلق به قوسا لم أستأذنكم في فتحه. وبالعودة إلى العلاقات الموريتانية المغربية، وإلى هذه الحملة التي يقوم بها البعض هنا وهناك من أجل الزيادة في توتير العلاقات بين البلدين الشقيقين، بالعودة إلى تلك العلاقات فإنه لابد من التأكيد على النقاط التالية:
1 ـ إن ما يحدث الآن بين المغرب وموريتانيا يجب أن لا نحمل مسؤوليته لغير النظامين الحاكمين في البلدين، فالعلاقة بين الشعب المغربي والموريتاني يجب أن تظل علاقة أخوية ومتينة لا تتأثر بمثل هذه التوترات التي تحدث من حين لآخر بين الأنظمة الحاكمة في البلدين.
2 ـ على الحريصين على متانة العلاقة بين الشعبين أن يدينوا وبشدة بعض التصريحات المسيئة للدولة الموريتانية، والتي جاءت على لسان بعض المغاربة . كما أن عليهم أن يدينوا وبنفس الحدة التصريحات المسيئة للمملكة المغربية والتي جاءت على لسان بعض الموريتانيين.
3 ـ من حق المغاربة أن ينتقدوا النظام الموريتاني بما شاؤوا، ومن حق الموريتانيين أن ينتقدوا النظام المغربي بما شاؤوا، ولكن ليس من حق أي أحد، مغربيا كان أو موريتانيا، أن ينتقد الشعب الموريتاني أو الشعب المغربي، ولا أن ينتقد الدولة الموريتانية أو الدولة المغربية.
فيا أيها "الوطنيون" هنا وهناك، من أراد منكم أن يتحدث عما يجري الآن بين المغرب وموريتانيا فليقل خيرا، أو ليصمت.
حفظ الله موريتانيا والمغرب..