هل كان الشاعر الفرنسي جاك ابرفير يتحدث عن نعشك أنت بالذات عندما أنشد شطره الجميل: “تاريخ النعوش محزن حقا”؟.. لست أدري، فمبلغ علمي أن نعشك واحد من أكثر النعوش إثارة لحزن من عرفوك أو التقوك أو جالسوك. فنعشك سيُحمل على أكتاف مخيلات هؤلاء بأثقل مما سيحمل على أكتاف جنود تشريفاتِ ومراسيم الدفن، لأنك واحد ممن يتركون بصمتهم اللاصقة في قلوب من التقوه، ولأن خلقك عظيم، ولأن قاموسك نظيف، ولأن منطقك حلو، ولأنك تعرف كيف تسحر الألباب، ولأنك تحب الخير وتعشق الحرية وتنشد الانعتاق. إذن، صغيرة هي الحروف عندما تحاول بناء صورة عن عملاق بحجمك!.. مهترئة ومترهلة هي الجمل عندما تحاول الإحاطة بفضائلك الجمة!.. لكننا مرغمون على التكيف، فالأقلام الحمقاوات لا تخجل في الغالب الأعم. ******* لأنك من بين قلة توصف في التاريخ بـ”نادرة الزمان”، فقد أصبحتَ قائد ناحية عسكرية وأنت بعد لم تبلغ الرابعة والعشرين من عمرك. ولأنك حجر كريم نادر، استطعت أن تسافر أربعين سنة في أحلام شعب بأكمله، بل تجاوزت شعبك لتسافر إلى الأبد في أحلام كل عشاق الحرية في العالم. ولأنك أيقونة نضال لا يهدأ وباقة انعتاق فوّاح، شرّفك أبو القارة نيلسون مانديلا حين قال إنه عندما يراك يرى فيك نفسه. لا توجد اليوم مرآة بشرية في العالم تستطيع أن تعكس صورة المناضل مانديلا غيرك، وبشهادته هو نفسه. تمتع، إذن، في جنات الخلد بالأكواب والقوارير وأكؤس الزنجبيل، فأنت المنافح عن الحق، المؤمن بالعدالة، الشهيد بكل المقاييس. ******* التقيتك قبل سنوات في الجزائر على طاولة مأدبة كريمة أقامها السفير الصحراوي، إبراهيم غالي، على شرف وفد موريتاني “متشعب”. لم تكن المرة الأخيرة، لكنها الأولى التي أحسسنا فيها أنك تقاوم المرض وترفض الاستسلام له كما تعودت أن ترفض الاستسلام لغيره، فالجندي المؤمن لا يستسلم وإنما يموت. يومها رأينا فيك شهما يبدأ مراسيم توديع الدنيا مبتسما كما دخلها في البَـدْء مبتسما.. كنتَ ودودا، عطوفا، تــُــناولُ هذا فرشاة، وتقطع لهذا بسكـّـين، وتــُـقرّب من ذاك شرابا، وتمازح ذينك، وتعانق أولئك.. أعطيتني طبقا زاد عن حاجتي.. قلت لي: “خذ، سيدي ميله”.. قلت لك: “سيادة الرئيس، لقد شبعت”.. قلت لي: “لا، أحمد فال، كــُـلْ، زد قليلا”.. قلت لك:” نعم، سآخذه، ليس لأنني جائع، لكن فقط احتراما لثقافة التصفيق للرؤساء”. ضحكتَ كعادتك لأنك تفهم من بين السطور ما لا يفهم الكثيرون. تارة تناديني بـ”سيدي ميله”، وكثيرا ما تدعوني “أحمد فال”: ذلك الإسم الذي اخترته لي منذ الساعات الأولى لعلاقة حميمة بدأت في تسعينات القرن الماضي. كنتُ أجد حرجا شديدا أكاد لا أصدق معه أنك تعنيني شخصيا عندما تقدمني لضيوفك. أتساءل في نفسي: عمن يتحدث سيادة الرئيس؟ مَن هذا الطبق البشري الطائر في جمهورية أفلاطونية فاضلة؟.. وهنيهة، أستخلص الحقيقة الجلية المتمثلة في كونك صاحب خلق عظيم، جُـبــِــــلــَــــتْ نفسُـك في الأزل على الكلمة الطيبة وعلى “التي هي أحسن”. ******* عندما زرت دياركم مؤخرا، بدعوة للمشاركة في المؤتمر الـ 14 للجبهة الشعبية لتحرير الساقيه الحمراء وواد الذهب، المنعقد في مخيم الداخله من 16 إلى 20 دجمبر 2015، علمت، قبل يوم عودة وفدنا، أن الرئاسة تبحث عنا “لنودع الرئيس محمد عبد العزيز”. فهمت أن المرض استبد بك للأسف، لأنه من عادتك أن تزور الوفد الموريتاني في خيمته، وأن تأتي على قدميك لتودعه أينما كان. ورغم أن التدافع كان قويا عند الباب، لأن الكل، من كل الجنسيات، يريد مصافحتك والتشرف بلقائك، فقد قررتُ أن أتخلف لأنني أعرف أنك أحوج ما تكون إلى الراحة خاصة أنك ممن يعرفون إرضاء وترضية خواطر الزائرين بمنحهم ما يشاءون من الوقت للسلام والمجاملات والرد على الاستشكالات و”غير ذلك”. إلا أن أخي ورفيق دربي، المناضل الصبور يحيى ولد أحمدو، أصر على أن أسلم عليك وأودعك، فعاد إليّ وأدخلني قهرا. وقفتَ لي كما تقف لكل المساكين التائهين أمثالي.. عانقتني بحرارة وأمطرتني بوابل من الابتسمات والأسئلة عن أخباري وعن صحتي وعن أهلي ومعارفي.. كنتَ بالفعل مريضا، لكنك كنت أنِـفـًا، أبيا، قوي الشكيمة، صلب الإرادة، كمن يريد أن يقول لشعبه: “عيشوا أحرارا أو موتوا واقفين”. كانت تلك آخر مرة أراك فيها.. وبعد ستة أشهر من القيل والقال عن صحتك وعن مآلات الوضع من بعدك، علمتُ – كما علم العالم- أنك التحقت بالصدّيقين والشهداء، وأنهم دفنوك عند “البيرْ لحـْــلُ” جاعلين منها محجة ومزارا بعد أن كانت قفرا يبابا، وفي أحسن الأحوال مسلخة للعجوز المُحَـنــّــطة، لاندروفر. ******* “البئر الحلوة”، حيث مرقدك الأبدي، مَـن ذا تـذوّق حلاوةً في مائها أو رأى وفرة في مرعاها؟!.. كم مرة أنــَـــــخــْــــنا عندها مطايانا نتحسس عن بنزين، أو علبة كبريت، أو قطعة من خبز جاف، فما كان ماؤها عذبا زلالا سلسبيلا، ولا مرعاها مُـزهرا مُـعشوشبا خصيبا، ولا غيثها هنيئا مريئا مريعا. لقد كذب الظاعنون، فالبئر لم تكن قبل اليوم حلوة، لكنها – وهي تــَــلــُـــفّ جسمك الطاهر بقطن فردوسي من ثراها المحظوظ- أصبحتْ بالفعل حلوة، تسقي ضِـيفانها “من ماء غير آسن”، “لذة للشاربين”. واليوم لا احْـلـَـــوْلـَـى غيرُها أبدا، ولا أخطأتها المزنُ المرجحنــّـات ساعة، ولا غاب عن شِعابها الغيمُ الظليل، يباكرها فيه غيث، يماسيها فيه نــَــــوْءٌ، تعللها فيه نسائم، فبردٌ، فجنة، فخــُــلـْــدٌ، فسلام. –