كثيرون منا لم يكونوا يعرفون المرحوم الصوفي ولد الشين.. ولم يكن لهم أن يعرفوه لولا تصفيته البشعة داخل أروقة المفوضية الثانية للشرطة بمقاطعة دار النعيم.
وبعيدا عن الأسباب الكامنة وراء الفعلة الشنيعة، والتوقيف خارج القانون، وتضارب الروايات الأمنية، والفرضيات والسيناريوهات التي صاغها "الرأي العام" وتصورها عن القضية، فإن جريمة تصفية الصوفي البشعة وما أعقبها من أحداث توجت - في المرحلة الأولى - بالتشريح والتشييع، وهجهت أكثر من رسالة لأكر من جهة.. فأي رسالة وأي جهة ستكون أكثر تجاوبًا..؟
الرسالة الأولى كانت لصانع القرار الموريتاني، ومفادها أن زمان التصفية الجسدية، والقفز على القوانين ولى إلى غير رجعة، كما الصمت على الظلم والإهانة، وأظهرت الأحداث التي أعقبت الواقعة الأليمة، بما فيها الجنازة المهيبة التي ودع بها الموريتانيون فقيد اللحمة الاجتماعية، كم نحن قريبون من الثورة على الظلم.! وأي ظلم؛ إن توفرت الدوافع وتأخرت المسكنات أو "تعذر الإصلاح الجاد" على لغة الدكتور سلمان العودة.
وللأمانة فقد تلقفت السلطة الموريتانية الرسالة، وبسرعة على غير المعتاد، وبذلت كل ما بوسعها لتقديم المسكنات الضرورية، فكان تشريح الجثة، ووضع اليد على المشتبه بهم، أو الجناة المحتملين، بالإضافة لإدانة الجريمة، وتقديم واجب العزاء لذوي الفقيد - أكثر من مرة، وتبني القضية والتلويح بمحاسبة المجرمين.
لكن المسكنات وحدها لم تعد تكفي، فهي لاتعدوا كونها مسكنات ومع الوقت سينتهي مفعولها، بل يتعين، وعلى جناح السرعة، المبادرة بالإصلاح الجاد؛ وهو لايحتاج كبير جهد في بلد موقع على العديد من المعاهدات والمواثيق الدولية، ويمتلك دستورًا تقدما بالمقارنة مع غيره من دساتير وقوانين المنطقة العربية والافريقية، ولديه ترسانة قانونية لاغبار عليها، إن طُبقت وبشكل صارم، وجُعل من تسند إليهم مهمة تطبيق القوانين والمساطر الإجرائية - قوات الأمن - على دراية بروح تلك القوانين والمساطر.
مع عدم السماح بأي حال من الأحول للمجرمين بالإفلات من العقاب.
أما الرسالة الثانية فكانت لدعاة الفتنة والتفرقة ومسوقيها، فالمرحوم صوفي ولد الشين لم يكن شخصا عاديا، على محدودية من وصل إليهم فكره في حياته، بالمقارنة مع من عرفوه بعد أن رحل..! - وتلك للأسف سمة من سمات هذا البلد، أنه لايعرف قيمة عظامه إلا بعد أن يترجلوا - بل كان صاحب فكر ومشروع، حيث كان واحدا من قلة آثروا الدعوة إلى اللحمة الاجتماعية والتكامل بين مكونات المجتمع الواحد في كنف دولة المواطنة، على التسلق على ظهور المسحوقين بدغدغة المشاعر والخطابات الفئوية والشرائية والقبلية والجهوية، في بلد تتصدره نخب غير نخبوية، لاتفهم غير القوة، ولاتفكر في غير المصالح الآنية والشخصية الضيقة، ولا ترى أبعد من أنوفها.
فلم يكن الصوفي ولد الشين أقل شأنا من أترابه من مختلف شرائح مجتمعه، ولم يكن ليعجز عن إيجاد خطاب شرائحي أو قبلي أو جهوي يؤمن له منصبا سياسيا أو إداريا مع حظوة لدى بعض تلك النخب غير النخبوية، استحقاقًا أو توازنًا، في ظل المد المحاصصي الذي يتسع يوما بعد يوم في توزيع المناصب السياسية والمواقع الإدارية، في محاولة يائسة من تلك النخب غير النخبوية للتغطية على فشلها في تكريس دولة المواطنة، ولن يكون بكل تأكيد غير فشل آخر في استيراد الفشل.!
ومفاد هذه الرسالة أن مشلة المجتمع الموريتاني بكل مكوناته ليست مشكلة تعايش بقدر ماهي مشكلة عيش؛ وأكبر معوق في سبيل العيش الكريم الذي يفتقر إليه جل الموريتانيين بكل مكوناتهم وأعراقهم وجهاتهم، هو تلك النخب غير النخبوية، من كل الشرائح والقبائل والجهات، التي تتحدث من غير توكيل باسمهم، وتقرر من غير إنابة وإن حدثت عن غير وعي مصيرهم، دون أن يرقبوا إلا ولا ذمة في مستقبلهم ومستقبل بلدهم.
ولم يكن لقضية الصوفي أن تجد من التعاطف ما وجدت لولا فداحة الفعل الذي تعرض له وتوازن خطابه الوسطي المعتدل.
والرسالة الثالثة والأخيرة كانت للمجتمع الموريتاني، ومفادها أن المصير أيضا يجمعه، مثلما يجمعه الدين والوطن، فإما أن يتحد في وجه كل من تسول له نفسه العبث بمصيره، سوء عن طريق بث الفتنة وخطاب الكراهية أو سوء استغلال السلطة وتبديد ممتلكات الدولة، أو يتشظى إلى شرائح وقبائل وجهات ليسهل على الطغمة الفاسدة من كل الشرائح والقبائل والجهات التي تتحكم في مصيره وتعبث بخيرات بلده تدجينه.