في خضم النقاش والسجال الدائر حول المدرسة العمومية ؛ تسللت إلى ذاكرتي ومضات لا تنسى من أول يوم لي في المدرسة رقم (1) بمدينة "تجكجة الجميلة " .. اكتملت إجراءات تسجيلي وتم تسلمي للمعلم ، كان القسم مكتظا ؛ والتلاميذ منهم من يفترش الأرضية ومنهم من يتخذ من" جلود الزكائب الفارغة" سجادا للجلوس ، والمحظوظ منهم من يجلس على كيس فارغ "من أكياس الشاي الأخضر الذي يستهلكه الآباء بنهم شديد" ؛ وكأنه يجلس على "عرش بلقيس" ، أخذت مكاني بين إخوتي ؛ وأنا الذي لم أر أكثر من خمسة أطفال معا قبل ذلك اليوم ؛ كنت منبهرا بكل شيء من حولي ؛ بدأ المعلم بتقديم نفسه "فالحصة حصة تعارف" ؛ فكان أنيق الهندام جميل المحيا طويل القامة، تفوح منه رائحة عطر منعش تتسلل عبر غبار الأرضية الذي ينثره الأطفال بحركاتهم البريئة .. ربما كان آخر معلم من الجيل الأنيق .. لهذه المدرسة وقار وهيبة عظيمة وموقع جميل في قلب المدينة ؛ تحفها واحات النخيل وتعانق نوافذها أكمامه ، وما زالت حينها تحتفظ ببعض كبريائها ، وطقوسها وتاريخها العريق رغم عاديات الزمن ، ورغم التنكيل والإهمال الذي لحق بالتعليم ، فكانت مواظبة على رفع العلم وترديد النشيد الوطني بحضور كل الفصول الدراسية ، وتقديم الإذاعة المدرسية ، وإقامة العروض المسرحية والألعاب الرياضية و لنا فريق لكرة القدم ، وكفالة داخلية ..ظلت تلك المدرسة الخالدة تزرع في النشء قيم الوطنية ومبادئ الجمهورية الإسلامية الموريتانية المستمدة من الدين الإسلامي والثقافة العربية الإفريقية ؛ والحال نفسه لأخواتها من المدارس العمومية في عموم التراب الوطني.
ثم أتت على التعليم العمومي محنة لا مرد لها ، وسنين قحط لانهاية لها ؛ و مقاربات "خصخصة" كانت وبالا على التعليم العمومي وكرست الفوارق المادية بين مكونات "مجتمع مازال في طور الانبهار المادي" وباعدت بين عقوله وأجساده ؛ فأصبح الأغنياء يتأففون على المدارس العمومية التي يتزاحم الفقراء والمغبونون على أعتابها بحثا عن معلم ؛ مشحون الوقت بفعل المداومة في أكثر من مدرسة حرة أو منشغل بتأسيس مدرسته الخاصة ..!
وفهما وإدراكا لهذا الواقع المعقد ؛ أعلن فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني في برنامجه الانتخابي" تعهداتي" أنه سيأخذ على عاتقه مهمة إصلاح التعليم وقال بالحرف في "وثيقة تعهداتي" : " إنني على يقين تام أن مدة خمس سنوات لا تكفي لإصلاح جميع الاختلالات في منظومتنا التعليمية ؛ ومع ذلك فإنني مصمم على الشروع بدون أي تأخير في تنفيذ الإصلاح الضروري لإرساء قواعد المدرسة التي نحلم بها جميعا لأجيالنا الصاعدة ، إنها مدرسة يجد فيها كل طفل موريتاني فرصة لنمو طاقاته وتفتق مواهبه في جو تعليمي هادئ تطبعه القيم النبيلة المستمدة من ديننا الحنيف وثقافتنا العربية الإفريقية " انتهى الاستشهاد .
لم يبقى هذا الكلام حبرا على ورق أو كلاما مرسلا بين دفتي كتاب مهجور ؛ بل تحول إلى انجاز ملموس يحتفي الوطن اليوم بخطواته الأولى ؛ وبهذا الخصوص صادقت الجمعية الوطنية على القانون التوجيهي للنظام التربوي الوطني ؛ وتطبيقا لهذا القانون تم حصر السنة الأولى ابتدائية في المدارس العمومية ؛ كما تم اكتتاب 6000 آلاف مدرس ؛و طباعة 3 مليون كتاب مدرسي ، وتشييد 1400 حجرة مدرسية ، و1000 حجرة مدرسية قيد الإنشاء ؛ واقتناء 80 ألف طاولة مدرسية ، كما تمت زيادة علاوات التحفيز ؛ وإنشاء سلك معلم رئيسي تثمينا وتشجيعا لقطاع ظل يعاني الإهمال.
ولم تتهاون ولم تتقاعس حكومة معالي الوزير الأول المهندس محمد ولد بلال مسعود ؛ في إنفاذ برنامج فخامة رئيس الجمهورية وتجسيده واقعا ملموسا "كالشمس في كبد السماء"؛ ، فكل هذه الانجازات ت الهائلة تحققت في ظرفية استثنائية فرضتها جائحة كرونا والأزمات العالمية ذات التأثير البالغ ، وتم إنجازها دون ضجيج أو استعراض ؛ لأن هدفها الأول هو خدمة الوطن والمواطن دون "من ولا أذى" ؛ والواجب على كل وطني أن ينخرط في معركة الإصلاح هذه ؛ وقد أكد معالي الوزير الأول على هذا الاتجاه خلال ترأسه لأعمال اجتماع اللجنة الوزارية المكلفة بمتابعة الدخول المدرسي ، وحث على تذليل وتجاوز كل الصعاب والمعوقات من أجل إرساء المدرسة الجمهورية التي تزرع قيم التسامح والعيش المشترك بين أبناء الشعب الواحد .. نعتقد أن" الكرة الآن في مرمي الآباء" و يجب عليهم الانخراط دون هوادة أو تكاسل في هذه المعركة المقدسة ، فلا تشوش عليهم حملات الدعاية الرخيصة التي يطلقها البعض "مكاء و تصدية " ؛ فما النصر إلا صبر ساعة .