غادر دنيانا رائد الوسطية العلامة د. طه جابر العلوانى، بعد أن ملأها علماً وفضلاً وفكراً، دون أن تذكره أى صحيفة مصرية بواحدة من مآثره الكثيرة ولا علمه الغزير.
ودون أن تُفرد له أى فضائية مصرية مساحة ولو صغيرة فى الأخبار أو البرامج لخبر وفاته، مع إطلالة على مشروعه الفكرى الكبير الذى يُعد من أقوى وأغزر مشروعات الوسطية والحضارة الإسلامية، ليس فى بلاد العرب والمسلمين فحسب، لكن فى أمريكا وأوروبا.
ذلك فى الوقت الذى تحتفى فيه هذه القنوات بعشرات ممن أفسدوا البلاد وأضلوا العباد.
ولولا نعى الأزهر لعالمنا الجليل لنسيته مصر تماماً.. ولولا نعى «إيسيسكو» له لكانت سبة فى جبين ذاكرة العرب الزهايمرية بالنسبة لعلمائها والحديدية لتوافهها ومنافقيها.
لقد أحسن الأزهر بتذكره الدكتور العلوانى كأحد علمائه الكبار الذين شرّفوا الأزهر ورفعوا قدره فى العالم كله.. فـ«العلوانى» عراقى الجنسية، مصرى الهوى، أحب الأزهر وحصل على الماجستير والدكتوراه بامتياز، مع التوصية بطبع الرسالة من أصعب كلياته «الشريعة»، وفى أدق تخصصاته «أصول الفقه».
تُرى من أحق من «د. العلوانى» لكى يُذكر حياً وميتاً، وهو الذى أسّس ورأس جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية التى تحوّلت إلى جامعة قرطبة بولاية فرجينيا بأمريكا من سنة 1996 وحتى وفاته، ورئيس تحرير مجلة «إسلامية المعرفة» بأمريكا وأستاذ الفقه والأصول سابقاً بجامعة الإمام محمد بن سعود، وأستاذ الدراسات الإسلامية ببغداد، الأستاذ الزائر بجامعة «القاضى عياض» بالمغرب، والأستاذ بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا وجامعة الجزيرة بالسودان، وجامعة بروناى وجامعة الأمير عبدالقادر بالجزائر وجامعة ستراسبورج بفرنسا وجامعة جورج تاون بواشنطن ومحاضر فى الدروس الحسنية الرمضانية تحت رعاية ملكى المغرب الحسن الثانى ومحمد الخامس، والحاصل على جائزة مؤسسة «كير» لأفضل إنجاز فى خدمة الإسلام بواشنطن وعضو المجمع الفقهى الدولى بجدة والمجمع الملكى لبحوث الحضارة بالأردن والمجمع الفقى بالهند.
معذرة أيها الراحل الكريم، البعض نسى أنك ألفت أكثر من 60 كتاباً، فضلاً عن عشرات الأبحاث العالمية، وأسست ورأست أكبر جامعة إسلامية فى الولايات المتحدة، وهى جامعة قرطبة فى ولاية فرجينيا.
لم يشفع للدكتور علوانى عند الإعلام المصرى أنه كان مهتماً بمصر أكثر من اهتمامه بوطنه الأصلى «العراق»، وكان يخاف عليها أكثر من خوفه على أى بلد آخر، فقد عاش فيها وفى أزهرها أجمل سنوات تكوينه العلمى والإنسانى.
عذراً «د. طه» فنحن مشغولون ببرامج اكتشاف الراقصات، و«وش السعد»، و«نفسنة» و«5 مواااااه»، وبالصراعات السياسية والخلافات على التوافه، وليس لدينا وقت للعلماء والعلم والفكر الصحيح.
كانت قضيتك الأولى وحدة العرب، ونحن الآن نهتم بكل ما يمزقهم، نسينا ما قلته: «ما حض الإسلام على شىء بعد توحيد الله مثلما حضّ على الوحدة، وما حذّر من شىء بعد الشرك مثلما حذّر من الفرقة».
لقد كانت معاركه كلها تدور حول محاربة التعصُّب المذهبى والعرقى والطائفى، ومواجهة الغش الثقافى والفكرى، والتديُّن المغشوش والاستبداد الذى هو أبو الأدواء فى العالم العربى.
لقد أدرك «د. العلوانى» أن «المشروع الإسلامى العمرانى المعاصر يعتمد أساساً على فكرة المواطنة والمساواة بين الناس».
وغاظه من الفلسفة الغربية «أن تجعل الله سبحانه فى مرتبة أقل من الإنسان، وغاظه منها أنها حقّقت التقدّم العلمى على أساس أنها تريد بها علواً فى الأرض وفساداً»، أما الفلسفة الإسلامية فتريد تحقيق ذلك على أساس الانكسار لله والتواضع وخفض الجناح لخلقه.
وغاظه من الفكر الإسلامى فى سنوات تخلفه عدم النهل من القرآن والسنة والنظر فيهما و«الاهتمام بتقديس أقوال الفقهاء والمفسرين القدامى، وبعضها قد يناسب عصره ولا يناسب عصرنا، وبعضها لا يناسب أى عصر».
لقد سرد «د. علوانى» على ذلك مثالاً صارخاً، وهو قول «الماوردى» صاحب «الأحكام السلطانية»: «وتجوز إمامة الجور وتمضى أحكامها، وتجوز إمامة الجبر يعنى المتغلب»، ويقول: «وتنعقد الإمامة ببيعة اثنين، قياساً على عقد النكاح».
ويعقب عليه «د. علوانى» بقوله: هذا ما قاله فقيه كبير متوفى سنة 450 هجرية، أى شخص يبايعه اثنان صار إماماً قياساً على عقد الزواج «أى من يتزوج حرمة كمن يحكم أمة»، وأمثال هذه الأفكار هى التى حولت الأمة إلى قطيع.
لقد هاجم «د. علوانى» التقليد الأعمى، وقد فسّر إغلاق بعض العلماء باب الاجتهاد قديماً بأنه كان إغلاقاً مؤقتاً، تحوطاً من الفتاوى الضالة لبعض علماء السلطان وقتها، ثم تحول الأمر من تحوط مؤقت إلى أمر دائم، كانت له آثاره السلبية على الفكر الإسلامى.
وكان يرى أن الخلافات السياسية لها أكبر الأثر فى الخلافات العقائدية والمذهبية، وأن الأمة العربية والإسلامية تجنى ثمرة الفصام النكد بين القيادات السياسية والفكرية الدينية.
ولو أن الحركات الإسلامية فى العالم الإسلامى عملت بأطروحات وتوجهات الدكتور العلوانى، ما أصابها العنت والضيق والكرب الذى عاشته وتعيشه، وما وصلت إليه من حالة الانسداد السياسى والجمود الفكرى والتناحر والتنابذ بين بعضها البعض والصراعات المستمرة مع حكوماتها ودولها.
رحم الله الراحل الكريم الذى كان صورة مشرقة لتقديم الإسلام للمسلمين وغير المسلمين فى صورته السمحة التى تبشر ولا تُنفر، وتجمع ولا تفرق، وتجمع بين الدين والحياة والنص والعقل والأصل والعصر والواجب والواقع والأصالة والمعاصرة.