مفارقة عجيبة تلك التي سيسجلها المتتبع البسيط لمسار التعليم في بلادي موريتانيا منذ مهد الدولة الى الآن، فمن نهاية ستينيات القرن الماضي وحتى آخر ثمانينياته ورغم شح الوسائل حينها، فقد كانت مخرجات التعليم في بلادنا توصف بالمتميزة مقارنة طبعا بالفترة اللّاحقة لها لَا لَاحقة اللّاحقة، حيث بات النحاح مقصورا على التلاميذ المتميزين أو مَن حالفهم الحظ في الالتحاق بمعلميهم وأساتذتهم بالمدارس الخاصة.
بين الأمس واليوم طالب يفشل في تجاوز مرحلة التعليم الثانوي وهو في نفس الوقت برتبة معلم مقتدر لِما اكتسبه من تعليم صُلب وامتلكه من معارف شتى، وفي المقابل اليوم طالب في زمن "النجاح البديل" _إلا من رحم_ وقد امتلأت خزنته شهادات ودالات وأول ما يخطر في باله عند أي إشكال يتعلق بالمقررات أو المناهج الدراسية بل وحتى ولو كان إعراب "به" فأول ما يخطر بباله هو تشغيل محرك البحث على غوغول ومن يدري قد تكون حاجته الى المحرك أكبر فلربما يؤول إليه أمر تدريس البراعم في السنة القادمة!
بين الأمس واليوم طالب كان يخرج صبيحة المسابقة بمفرده الى قاعة الامتحان، لا أُمّ، لَا أختَ تنتظره عند بوابة مركز الامتحان لا؛ ولاحملات سقاية، عكس اليوم، فكان للنجاح طعم لذيد لِقلّته وللشهادات نكهةٌ لا تقاوم لِندرتها قبل فتح الباب على تريليونات المصاريع لمسار آخر.
مع مطلع التسعينيات بدأ ذلك الوهج في الخفوت شيئا فشيئا، رغم استمرار الاحتفاظ للمعلم بمكانته وللمسابقات والامتحانات الوطنية بحرمتها وللمدرسة بهيبتها وأبّهتِها فكانت القاعدة حينها هي أنه على قدر احترام العلم تكون الاستفادة منه.
فخلف من بعدهم خلف ضيعوا تلك المكانة وأضاعوا تلك الحرمة والهيبة والأبهة في آن، خصوصا مع دخول الهواتف النقالة على الخط وتخرج الدفعة الأولى من جيل الاندرويد ولاحقا تخرج الجيل الأول من أبناء الآبل متعددي الرقصات.
بين الأمس واليوم كان الغش في الامتحانات عار وشنار أما اليوم فأصبح تجارةَ مطويات وتسريبات، يتنافس فيها المتنافسون على الوصول الى من يدفع أكثر من مترشحين يريدون تجاوز عبتة الامتحان لا عتبة الجهل.
كم هو مزر ذاك الواقع الراهن الذي يرزح تحته التعليم الذي يعد أحد أهم روافد التنمية في كل بلد، لكن ورغم كل هذه المساوئ ورغم تدافع المسؤوليات، بين جدية الإرادة السياسية من جهة ودور وكلاء التلاميذ والطواقم التربوية من جهة أخرى، مزال هناك من لديه بقية أخلاق وشيء من التقوى ويسعى في كل سانحة الى التنبيه على مكامن الخلل علّ وعسى أن يعود الى التعليم في بلادنا بعض ذلك الألق الذي وصل إليه ذات يوم.
عبد المومن ولد أحمد