في الجزء الثالث والأخير من كتابتنا تحت هذا العنوان؛ حول التشاور وكونه فرصة ثمينة لا ينبغي أن تضيع على الوطن والمواطن، لما يترتب على نضج مخرجاتها من الصالح العام للبلاد والعباد في حال كانت تلبي الطموح ثم وجدت طريق النفاذ بعد ذلك.. في هذا الجزء نصل مجال الوحدة الوطنية واللحمة الاجتماعية بما يحوي من ضرورة تحقق على مستوى العدالة الاجتماعية والإنصاف، ومعالجة نهائية لكل الملفات العالقة خاصة في جانب حقوق الإنسان والإرث الإنساني، وجميع أشكال الرق المعاصرة ومخلفاته.
إن أهم منشود في سبيل تحقق العدالة الاجتماعية هو إرساء دعائم مدرسة جمهورية عمومية؛ تؤوي كل أبناء الطيف الاجتماعي وتقدم لهم ذات الخدمة بنفس المستوى مع تباين مستوياتهم سواء في الذهنية الاجتماعية مع ما يحيط هذه الكلمة من تحفظ عليها، أو من خلال تباين في المستويات الاقتصادية لذويهم أو غير ذلك من روافد الاختلاف والتمايز؛ إن مما يدعم وجود واستمرار ونجاح المدرسة الجمهورية أن تكون المناهج التربوية تلامس حياة الناشئة وتنمي فيهم ملكة الإبداع مزينة بالعلم والمعرفة ومشبعة بحب الوطن بالتنشئة السليمة على مفاهيم ومقاصد المواطنة؛ مع ما يقتضيه ذلك من توفر كامل للدعامات التربوية بدءا بالكتاب المدرسي والزي الماحي لمظاهر الفوارق الاجتماعية على الأقل في الهيئة العامة للتلاميذ؛ مع ضرورة المتابعة الدقيقة وتطوير مستويات المدرسين المعرفية وإنعاش مستوياتهم المادية بزيادة الرواتب أساسا زيادة تضمن العيش الكريم في ظل الارتفاع المهول للأسعار وتنامي مشاكل الحياة، ومواصلة تحسين العلاوات حتى تصل مستوى الإرضاء والتشجيع الكامل لجودة وتناغم العطاء، بالإضافة إلى العمل على تغيير المظهر العام للبنية التحتية بتعميم المدارس الحديثة ذات التصميم الجيد التي أصبحت تشاهد؛ تشييدا هنا وهناك؛ لكن طالما أن هناك مدارس في الريف مشيدة بالطين دون تدعيم أو بالقش فإن الصورة سيظل جانبها المظلم يحجب الضياء؛ فلا بد من زيادة وتيرة التشييد العصري وتوسيع رقعة خريطة هذه المدارس العصرية المشيدة حتى يتزود التلاميذ بالعلم في أمان؛ وما حادثة سقوط الحجرة الدراسية في مدرسة الجكرة2 في بيري بافة بالحوض الشرقي يوم أمس والتي أدت إلى إصابة بعض التلاميذ توفي أحدهم في مابعد؛ نسأل الله له الرحمة ولذويه الصبر والسلوان؛ إلا خير مثال ودافع حقيقي لتدعيم البنية التحتية.
إن من أهم ما يعزز الانسجام الاجتماعي ويدعم العيش المشترك بالإضافة إلى تساوي فرص الولوج إلى تعليم يلبي الطموح؛ تساوي الفرص أيضا في الولوج للوظائف من خلال نزاهة الاكتتابات وحياد الإدارة في الترقيات ووضع اشتراطات فنية بحتة بعيدة عن التفضيل المزاجي أو الدفع الانتمائي أو الترفيع بالولاء السياسي أو غير ذلك مما لا علاقة له بالأداء ومردودية العطاء.
وفي الجانب الثقافي فإن ما يجمع هذا المجتمع أكثر مما يفرقه؛ فلنا حضارة إسلامية ضاربة في العراقة والإنصاف علينا أن نعود إلى حقيقتها الناصعة وننقيها من العوالق المعيقة التي ترسبت على جنباتها عبر حقب الفتور التي أبعدت الممارسات الأهلية عن روح التعاليم الإسلامية المبنية على التفاعل داخل الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعت له باقي الأعضاء سهرا وحمى؛ ومن خلال ذلك كله نحيي الإنصاف والكرم والتعاضد ونتقاسم روح الوطنية؛ التي تجعل أي منا أحرص من أخيه على حب هذا الوطن والتفاني في خدمته؛ ومما يغذي تماسك ذلك كله تدعيم التلاقي بإحياء اللغة الجامعة (اللغة العربية) في المناهج التربوية وفي التعاملات والمراسلات الإدارية احتراما للدستور؛ نصا وروحا، وتحقيقا لجوامع المواطنة؛ دون أن نغفل عن أهمية بعث روح اللغات الوطنية بين المواطنين تعلما وتبادلا؛ سبيلا إلى زرع الوئام والتآخي الذي يلعب فيه تعلم اللغات الوطنية الدور الكبير، وطبعا كلما زاد منسوب التبادل اللهجي بين مكونات المجتمع كلما تقاربت، وارتاح بعضها لبعض.
لقد قطعت بلادنا مراحل مهمة في مجال حقوق الإنسان من خلال ترسانة التشريع، والهياكل المؤسسية، لكن ثمار ذلك كله لن تنضج قبل تحقيق كل المقاصد على أرض الواقع، ذلك الواقع الذي تجدد مطالبه وتنمو مع الزمن وتتغير حيثياتها مع الأيام؛ فلم تعد الحقوق محصورة في حق التعلم والتملك والحرية والانتماء وغيرها من عناصر الجيل الأول للحقوق؛ بل صارت الرفاهية حقا إنسانيا ينشده كل مواطن ويسائل الدولة أن تتدخل لتوفيره وقبله الصحة المجائية والأمن التام.. بل إن هناك مطالب لتقسيم الثروات والإشراك في المقدرات وليس فقط الرضا بما يقدم من خدمات.
إن من الآليات الصارمة للقضاء النهائي على العبودية تفعيل القوانين المجرمة للظاهرة والوقوف على روح الإسلام الذي يدعو إلى التآخي والمساواة ونبذ ما سوى ذلك ..( لا يومن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) خاصة أن الزمن أصبح يفرض ذلك؛ فمن الضروري جدا أن تكون هناك يقظة تامة على المنابر وفي الصالونات الثقافية وعبر وسائل الإعلام والتواصل تنير الطريق حول عوالق هذه المسألة والتي تظهر شظاياها البغيضة من حين لآخر؛ وما يثار من وجود حالة عبودية في دار البركة بلبراكنة إلا خير دليل وأصدق برهان على ضرورة معالجة هذه الظاهرة المشينة وعدم التصامم عنها؛ إذ لا جدوى من ذلك، فلا بد من وضع النقاط على الحروف ومعالجة هذه الرواسب فكريا عبر المنابر والخطب وفي البرامج التلفزية والإذاعية ومن خلال المناهج التربوية والأبحاث الجامعية وتسليط الضوء على كل ما تجر عليه ذيلها من عمالة للأطفال واستغلال للقصر والعمال اليدويين وعمال المنازل والحمالة؛ ووضع مساطر قانونية تكفل لهم الحق الإنساني وتحول دون تغول المشغل بما يضمن لهم انتعاشا اقتصاديا وترضية اجتماعية؛ هذا بالإضافة إلى تسليط الضوء تربويا من خلال محتويات داعمة على أهمية احترام الإنسان لأخيه الإنسان مهما كان بينهما من تفاوت مادي ومعنوي