د. عبد الحي زلوم
عندما قررت الحكومة البريطانية خصخصة اسهمها في شركة البترول البريطانية (BP) وتم طرح الاسهم في السوق اتخذت الكويت قراراً حكيماً بشراء كمية جيدة من تلك الاسهم . اعتبر السوق المالي القرار منقذاً لسعر اسهم شركة (BP) حيث ان فترة الطرح كانت تقارب فترة الانهيار العظيم للاسهم سنة 1988 . اصبحت الكويت تمتلك 21.6% من اسهم شركة (BP) وقيمتها كانت 5.09 مليار دولار . في شهر اكتوبر 1988 طلبت الحكومة البريطانية من دولة الكويت ان تبيع أكثر من نصف اسهمها تلك. جاء القرارالبريطاني بعد لجنة تحقيق استمرت 4 شهور من مؤسسة الاحتكار والاندماج حيث كان قرارها أن امتلاك الكويت الـ 5.09 مليار دولار في شركة BP يتضارب مع مصالح الدولة البريطانية . لم يشفع للكويت انها كانت تستثمر أكثر من 16 مليار دولار في الاقتصاد البريطاني . كذلك صرح رئيس مجلس ادارة شركة(BP) ان الشركة غير مرتاحة لامتلاك الكويت هذه النسبة وان الشركة ستتضرر في الولايات المتحدة وغيرها حينما يعلم الناس ان الشركة مملوكة جزئياً من دولة نفطية عربية وكأن من يتعامل مع العرب واموالهم سيصاب بالجرب أو بالطاعون! اوصى رئيس مجلس ادارة الشركة أن لا تتجاوز حصة الكويت الــ9.9% وأن تتم عملية البيع لما يزيد عن ذلك خلال سنة . قدر المحللون الاقتصاديون في السوق آنذاك أن خسارة الخزانة الكويتية ( مكتب الاستثمار الكويتي ) ستبلغ حوالي 700 مليون دولار. علماً بان الكويت كانت تمتلك 80 مليار دولار في مكتب الكويت للاستثمار. السؤال الذي يطرح نفسه هو هل صناديق الاستثمار البترودولارية العربية تملك قرارها السيادي الاقتصادي لإستثمار فلوسها حيثما قررت أن هناك جدوى إقتصادية بذلك؟ والجواب واضح جداً بأنه لا. مسموح شراء الاسهم في Disneyland الاوروبية المفلسة ومسموح بل يتوجب ايداع البترودولارات في حساب الخزينة الامريكية . عندما اصيبت السعودية بضائقة مالية بعد حرب الخليج الاولى لم يُسمح لها بسحب أي من مدخراتها في الخزينة الامريكية وقيل لها استدينوا من السوق . الشيء نفسه اليوم فاضطرت السعودية الاستدانة من السوق لتغطية عجوزاتها الناتجة عن تدهور اسعار النفط وحروبها في سوريا واليمن .
لكن السؤال الأكثر إلحاحا الذي يليه: إذا كنا لا نستطيع الإستثمار المجدي كما نريد فلماذا ننتج ما يزيد عن حاجتنا للتنمية والجواب بأن كمية الانتاج هي قرار أمريكي بامتياز كما اقتبسنا في مقالة سابقة ما يُدّرس في جامعة هارفارد أن سعر النفط وكمية إنتاجه هي من ركائز الأمن القومي التي لا تجيره الولايات المتحدة لأحد بما فيهم المنتجين للنفط وأصحابه.
كثيراً ما أُسأل هذه الأيام أن كان إغراق السوق النفطية هو مصلحة وطنية باعتبار ذلك سيؤدي إلى الاضرار بصناعة الزيت الصخري في الولايات المتحدة . ثم هل وجود هذه الصناعة هي لمصلحة الدول العربية المنتجة أم لا ؟والجواب : بدأ انتاج النفط الصخري بكلفته العالية بعد نفاذ النفط التقليدي في معظم الدول الغربية وبالولايات المتحدة خاصةً. ولان انتاجه عالي الكلفة فلقد كان ذلك سبباً في رفع اسعار النفط بأنواعها ليصبح انتاجه اقتصادياً . اذاً فلقد افاد الزيتي الصخري اسعار النفوط العربية جميعها وهي أصلاً الاقل كلفة للانتاج في العالم .لذلك فإنتاج الزيت الصخري كان مصلحة عربية . وإذا تم اغراق السوق وأُخرِج منها فيكون تأثير ذلك مؤقتاً لانه سيرجع للانتاج حالما ارتفع السعر وهو امر محتم. وعلى كل حال فنسبة انتاج الزيت الصخري سنة 2015 كانت حوالي 6% من الانتاج العالمي ولا يتوقع أن يصل أبداً الى اكثر من 10% .
سؤال أخر يُطْرُح هذه الأيام: هل زيادة الانتاج العربي لاغراق السوق عمل منطقي واقتصادي وعلمي للمحافظة على حصة السوق ؟ والجواب : إن هذا المنهج من التفكير لا علاقة له لا بالعلم ولا بالاقتصاد . ليس المهم المحافظة على 10 مليون برميل باليوم كإنتاج وإبقاء هذه الحصة بأي ثمن لان المهم هو العائد المالي.هل الافضل انتاج 8 مليون برميل في اليوم بسعر 60دولار للبرميل (اي 480 مليون دولار يومياً ) أم انتاج 10 مليون برميل باليوم بـ30 دولار للبرميل أي( 300 مليون دولار يومياً)؟ الجواب واضح : خفض الانتاج 20% سيرفع السعر الى الضعف على الاقل وينتج عن ذلك زيادة في الدخل 180 مليون دولار يومياً بالاضافة الى المحافظة على 2 مليون برميل يومياً في الأرض الى الاجيال القادمة التي هي صاحبة هذه الثروة الطبيعية.
وسُألت أيضاً: ما علاقة استهلاك النفط بالنمو الاقتصادي العالمي ؟ والجواب : تستعمل الولايات المتحدة اسعار النفط لتسخين اقتصادها ( اي تحفيزه ) أو تبريده أي ( السيطرة على الغلاء ). لذلك فإن تخفيض الاسعار في حالات التباطئ الاقتصادي مفيدة لاقتصاد الولايات المتحدة كما هي الحال اليوم مما خفض اسعار البنزين والسولار ووقود التدفئة على المستهلكين في الولايات المتحدة. والتأثير عكسي وضار لاقتصاد المنتجين حيث ينخفض الدخل مما حدا بالدول المنتجة الى زيادة اسعار المحروقات والماء والكهرباء.
أين تذهب كل هذه المليارات؟
إن الانتاج فوق الحاجة ينتج عنه تحويل الثروة الطبيعية في أوطاننا إلى ورق ليسد عجوزات الولايات المتحدة أو لينقذ شركاتها المتعثرة. أرقام الأموال الفائضة كما في صناديق الاستثمار الخليجية هي أرقام خرافية وهذه موجوداتها كما في 2015:
– ابو ظبي 773 مليار دولار.
– السعودية 685 مليار دولار.
– الكويت 592 مليار دولار.
– قطر 256 مليار دولار.
دعنا نقارن بين صندوق الاستثمار النرويجي والسعودي:
سيستغرب اكثر القراء حين يعلمون أن صندوق استثمار البترودولارات النرويجي البالغ 873 مليار دولار هو أكبر من أي من الصناديق الخليجية ولكن نسمع القليل عنه. الصندوق السعودي البالغ 685 مليار دولار هو حصيلة انتاج المملكة العربية السعودية من النفط يزيد 5 مرات عن انتاج النرويج علماً بان احتياط النفط السعودي يزيد 38 مرة عن احتياط النرويج وبأن صندوقها يستطيع أن يستثمر اينما كان. ولكن كيف ؟ قررت النرويج ان النفط سلعة زائلة وأن دخلها من انتاجها البالغ 2 مليون برميل في اليوم يجب أن يتمّ إدخاره للاجيال القادمة دون إستعمال أي جزء منه في نفقات الدولة. وأحدى المقترحات التي يتم تداولها هو توزيع تلك الثروة أو جزءً منها بالتساوي على الشعب النرويجي البالغ حوالي 5 مليون نسمة فقط . تعتقد الحكومة النرويجية أن النفط هو ملك الشعب ! حتى أنها تدير اقتصادها وكأنها لا تملك من النفط شيئاً . أكثر السيارات في النرويج تسير على الكهرباء لان الحكومة تدعمُ تلك السيارات وحتى أن اسعار المنتوجات البترولية ما زالت تحتوي على نفس الضرائب العالية كما قبل عهد النفط .
ماذا لو كانت الدول النفطية تمتلك قرارها السيادي الاقتصادي؟
يمكن لصندوق الاستثمار الواحد لاحدى دول الخليج شراء شركات النفط الامريكية الكبرى كلها لو كان لها قرارها السيادي للاستثمار. أدناه القيمة السوقية اليوم لاكبر شركات البترول الامريكية كما في سنة 2015.
– Exxon Mobil – 350 مليار دولار .
– Chevron -197 مليار دولار .
– Conoco Philips – 76 مليار دولار.
– Occidental – 56 مليار دولار .
– المجموع لاعلاه 679 مليار دولار .
وكما يتضح فإن الفائض المالي للسعودية والبالغ 685 مليار دولار يستطيع لوحده شراء شركات النفط الامريكية الكبرى كلها بل يستطيع صندوق الاستثمار السيادي لابو ظبي لوحده شراؤها مضافاً إليها شركة البترول البريطانية ايضاً ويبقى عنده فائض !
مما يؤسف له أن هذه الصناديق تدار من خبراء اجانب يتمُ دسهم من بلادهم لخدمة مصالح اوطانهم . ولو قيل هذا القول سابقاً لخرج طراطير الغرب ليقولوا إن هذا نظرية مؤامرة لكن الكتاب الذي اصدره جون بيركنز بعنوان The Economic Hit Man بين ان الولايات المتحدة تقوم بصورة مؤسسية بإغراق الدول بالديون فوق طاقتها لسلبها قرارها الاقتصادي والسياسي وعلى راس تلك الدول دول الفائض البترودولاري .
في تقرير بتاريخ 28/9/2015 لجريدة الفايناشال تايمز عنوانه ” صندوق قطر السيادي يخسر 12 مليار دولار تقريباً ” جاء فيه ” بعض اسهم صندوق قطر السيادي قد خسرت دفترياً 12 مليار دولار خلال الربع الثالث لسنة 2015 “. خسرت اسهم شركة سيارات فولسوغن المملوكة من قطر خلال ذلك الربع 8.4 مليار دولار وخسرت اسهم الصندوق في شركة Glencore 2.7 مليار دولار وخسر الصندوق في اسهمه في بنك الصين الزراعي 650 مليون دولار . بالاضافة الى خسارة الصندوق 500 مليون دولار في اسهمه في شركة Royal Dutch Shell وخسارة اسهمه في بنك باركليز 240 مليون دولار وفي شركة سمينز 310 مليون دولار . يا الهي ! وكأن هذه الاموال اموال الايتام في مأدبة اللئام ! أو أنها أموال حرام!
هناك اسئلة كثيرة ومنها :-
اذا كان لا يسمح لنا هذا وذاك فأقلها لماذا لا نستثمر لاجل كفايتنا من الغذاء وتحقيق الامن الغذائي ؟ دعى وزير مالية الامارات في 2/3/2013 أن يتم الاستثمار بمبلغ 80 مليار دولار في حقل الزراعة وذلك للمساعدة في تخفيض الاعتماد على الاستيراد من الخارج من الغذاء حيث قال أنه وبدون ذلك ستزيد المستوردات من الغذاء من 41 مليار دولار كما كانت في العام 2010 لتصبح 89 مليار دولار سنة 2020 .بداية نشكر الوزير الاماراتي على التذكير بهذه النقطة الهامة لكن اليس هذا المبلغ جزءاً يكاد لا يتعدى 10% من الصندوق السيادي ل ( ابو ظبي) وهل هذا المبلغ عصي على تحقيقه واليس السودان كما يقال يمكن أن يكون سلة الغذاء للعالم العربي ؟ أم أنه ممنوع علينا أيضاً من تحقيق الامن الغذائي حيث قال بعض ساسة الولايات المتحدة ( اقطعوا عنا النفط نقطع عنكم الغذاء ) .
مستشار ومؤلف وباحث/ صحيفة رأي اليوم