بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على النبي العربي الكريم وعلى الآل والصحب.
وبعد،
فهذه أولى سلسلة مقالات عن وضعية الطيران المدني الوطني، كنت قد ضمنت كثيرا من موضوعاتها المثارة تاليا في تقرير مفصل يشخص وضعية القطاع وأرسلته قبل أشهر عدة إلى السلطات المعنية ولم يحظ، لبالغ الأسف، بالاهتمام المنشود.
وها أنذا اليوم أتحمل مسؤولياتي الأخلاقية والوطنية وأكتب للرأي العام حول المآل المحبط للطيران المدني.
وقبلئذ أود توكيد أن دافعي للكتابة ليس تظلما من أحد أونكاية فيه وماهو طموحا أو غرضا شخصيا، بل بسبب مرارة شعوري وأنا مغترب من أجل ظروف عمل أكثر إحترافية وأمانًا كان حريا بها التواجد في وطني بيني أهلي وأخلائي. ولعل دافعي الرئيس هو إحاطة الرأي العام الوطني من موقعي كمعاين للوضع المزري الموريتانية للطيران كشركة وطنية عمومية حُق للموريتانيين، كمالكين حقيقيين، معرفة أحوالها ومصير مبالغ المال العام المهوِلة اللتي أنفقت عليها.
وإني لمؤمن أن هذا الوطن ما فتئ يزخر بالكثير من أبناءه الصادقين الأكفاء ولما يقولوا كلمتهم الفصل، يتألمون لما آلت إليه شؤون بلدهم ولا نية لديهم في ترك وطنهم بأيدي عصبة من المتزّلفين عديمي الاهلية، أثبتوا فشلهم قبلا ويثبتونه حاضرا وهاهم أولاء يتبادلون الوظائف مرة بعد المرة كأن لم تلد النساء غيرهم. وأتفهم تماما أن لا قراءة موضوعية لمقالاتي بمعزل عن الوضعية العامة للبلد وتسيير مؤسساته ، في ظل ابتلائنا بسلطة في حكم الغافية ومعارضة بمظهر المحتضِر، إن البلايا يسحب بعضها بعضا.
وسأتقيد قدر استطاعتي بسرد الحقائق والوقائع على وجهها كما بدت لي، دون تشنيع أو تفريط، ودونما مداهنة أو ميل. وتجنبا للاطالة فقد رتبتها على عدة مقالات ستتناول على سبيل المثال لا الحصر المواضيع الاتية:
التسيير، المديرين العامين، شراء الطائرات، الاكتتاب و التكوين،السياسة التجارية….
ورغم سلبية النقاط التي سأثيرها، مازلت مؤمنا بقدرة الموريتانيين على إنشاء شركة نقل وطنية قادرة على مضارعة الشركات الاجنبية، وحتى التفوق عليها، إن توفرت إرادة سياسية واعية، توفر الإطار التنظيمي المناسب.
تتمتع شركات الطيران المستحقة لهذا اللقب باستراتيجيات تضع خطوطها العريضة غالبا مكاتب مختصة تحدد للشركة نوعية الطائرات طرازا وعددا، و تختار وجهاتها و تردد رحلاتها ومواقيتها، وآليات نموها و كذا الحملات الدعائية المرافقة، وتضع أطرا تنظيمية للعمليات الجوية و التجارية و التقنية، و قوانين لتنظيم العمال و حقوقهم وواجباتهم.
إن تلك النظم تشكل الحجر الأساس لأي تسيير سلس وآمن للشركات الجوية حيث تشتمل على أجوبة، متفق عليها مسبقا في غياب وزر الضغوط العملياتية، لجل المهمات اليومية وكذا التحديات المعقولة التي قد تواجه الموظفين والطواقم، دون إرتجال حلول ترقيعية حسب الضرورات، والضرورات تبيح المحظورات كما تقول القاعدة الأصولية الشهيرة.
لا تمتلك الموريتانية للطيران أي نظم فعالة تناسب محيط عملياتها وإن وجد ما يوهم بذاك فما يعدو كونه "نسخ ولصق" لأضغاث نظم نقلت بصورة عشوائية من شركات غابرة، والأدهى و الأمر، أن مسيري الموريتانية للطيران إما هم في غفلة عن تلك النظم أو لا يؤمنون أصلا بجدوائيتها، فالأمر كله محصور في ارتجال المديرين العامين الغاصّين بجزيئات التسيير اليومي التي تكفهم عن النظر إلى أبعد من ذاك، وكل همهم توفير طائرة وطاقمها للرحلات الرئاسية، وتحميل سابقيهم مسؤولية أي تقصير. أما السهر على توفير خدمات مناسبة للمسافرين فذاك آخر همهم، إذ ليس ذلك جزأ من تقييم الحكومة لأدائهم.
وما دمنا نتحدث عن المديرين العامين فلا بأس أن نتطرق إلى عملية إختيارهم. إنكم تعلمون أن تسيير الشركات الجوية يختلف عن باقي المؤسسات، نظرا للطبيعة العالمية لهذا القطاع، والحركية المستمرة لسياق العوامل المؤثرة فيه وكذا المعايير الصارمة المتشعبة .أعتقد أن مديري الموريتانية للطيران لم يكونوا مستعدين كفاية لمثل التحديات المطروحة، فقد حظوا جميعهم بالمنصب، ولا أستثني أحدًا، لاعتبارات سياسية اجتماعية ضيقة دون اعتبار لتجاربهم السابقة أو خبرتهم في المجال، فإذ يستلمون مهامهم و لا يجدون نظما وأطرًا تحدد معالم مأموريتهم، والأحرى في هذا المقام التركيز على استحداث إطار تنظيمي يؤسس قواعد الشركة ويدعمها. بدل ذاك طفق المسيرون المتعاقبون يرتجلون التدابير دون مراعاة إطار قانوني أو ضابط فني ولم يتورعوا عن الخوض في أكثر الشؤون تقنية، ولم ينصتوا أويولوا إلا من وافق أهوائهم. وأسقطوا حرفيا تجاربهم الادارية السابقة، إن وجدت، دون مواءمة أوتعديل، وفي نهاية المطاف يستلذون اليد المطلقة التي أتيحت لهم دون رقيب فيتمادون في فعلهم، وبينما هم في ذلك، وعلى حين غفلة، يصدر مرسوم بإعفائهم من المنصب، وإذا بمدير جديد مغمور والقياس على آنف الذكر. في هذه الحلقة المفرغة لم تستفد الموريتانية للطيران شيئا، ولم تتقدم قيد أنملة.
بعض أعراض الارتجال الأعمى باتت جلية هذه الأيام إذ توقف جميع الطائرات الثماني المملوكة من طرف الشركة حيث التجأت الشركة إلى استئجار طائرة بلغارية عبر وسطاء سنغاليين، مع تكفل طواقمها الثماني والعشرين، بسبب جدولة عمليات صيانة روتينية، كان لها أن تبرمج بطريقة متفاوتة. هذا التوقف أدى إلى إلغاء كل الرحلات الداخلية إلا النزر اليسير وتأخير أو إلغاء باقي الرحلات، تاركا مئات المسافرين عالقين في عدة مطارات دون سند أو عون، ولم يكدر ذاك من صفو إغفاءة السلطات المعنية.
وأكاد أسمع الحجج الواهية لبعض المحابين، وهم يلقون بالائمة على جميع الحكومات والأنظمة السابقة. بل وعلى الموريتانيين وتخلفهم، ما أشدّ مللنا من تلك الحجج!.
إن الأسلوب المتعالي الأرعن للإدارة الحالية سبب قطيعة شبه تامة بين الطيارين والادارة حتى بلغ الأمر إضراب الأخيرين عن العمل، نهاية شهر أكتوبر، في سابقة من نوعها كادت تهدد وجود الشركة، وبعد أشهر من ذاك الاضراب لا تزال القطيعة على أوجها، مما أثّر و يؤثر على تسيير الرحلات وأمانها، إني قد أنذرت!!. وسأفرد لاحقا مقالا حول حيثيات ذاك الاضراب و الطريقة غيرالمألوفة التي سوي بها.
وإليكم حلقة مسهِرة أخرى من تسيير الموارد البشرية . فأثناء إضراب الطيارين، قام أحد موظفي الشركة المحسوبين على المدير العام وناطقا رسميا باسم الشركة، بوصف الطيارين بالخونة وقليلي الوطنية واتهمهم بتعريض حياة الركاب للخطر، قام بفعلته تلك على صفحة تواصل إجتماعي تتخذ من بيانات الشركة عنوانا لها، وعلى مرأى ومسمع من الادارة العامة دون أن تحرك ساكنا، في أي من جامعات التسيير تدرس تلك المهازل !!؟؟ .وتكملة لعين الموضوع، رفع الطيارون قضية سب وقذف وتشهير على الموظف المذكور وكل من يثبت التحقيق تورطه، وقد وجهت له النيابة العامة التهم بالفعل، و مازالنا ننتظر بتّ القضاء في شأنه.
يتواصل،
حفظكم الله
القائد الطيار: أبوبكر ولد بيها