في تعليقه على اتفاق وقف إطلاق النار في سوريا الذي رعته القوى العظمى لم يجد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الذي يتمنى النجاح للطرفين المتصارعين في مواصلة القتال، سوى القول بأن على كل تسوية في سوريا أن تضمن مصالح إسرائيل. ونتنياهو يواصل بموقفه هذا استراتيجية الغطرسة التي قادته في العام الفائت إلى محاربة إدارة أوباما في الكونغرس، بسبب الاتفاق النووي وإلى السخرية من المبادرة الفرنسية لتحريك المفاوضات مع الفلسطينيين وإلى إدانة رئيس الحكومة البريطانية لإعرابه عن الصدمة من الاستيطان في القدس الشرقية.
ومن الجلي أن نتنياهو يواصل بسياسته هذه، المنطق الذي كان بدأه عندما كان سفيراً لإسرائيل في الأمم المتحدة وقاد حينها وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر إلى حظر دخوله مبنى وزارة الخارجية. لكن نتنياهو لا يتعلّم، وهو في نظر كثير من الإسرائيليين، لا يدرك أن إسرائيل، رغم كل ما تمتلك من قوة، ليست قوة عظمى وأن جانباً أساسياً من قوتها يعود إلى دعمها من أميركا خصوصاً، والغرب عموماً. ولذلك لا يجد أغلب الإسرائيليين حرجاً في تقبل منهج نتنياهو عندما يكون موجهاً ضد العرب، ويختلفون فيما بينهم حينما تصطدم العنجهية الإسرائيلية بالعناد التركي. ولكن، عدا هامش ضئيل من المتطرفين، يتساءل باقي الإسرائيليين عن جدوى الصدام مع أميركا أو اجتذاب عداء الغرب الأوروبي.
ومن الجائز أن الأمثلة التي يصطدم بها الإسرائيليون صارت تتزايد مع مرور الوقت ويشعرون أيضاً بتراجع الحكومة الإسرائيلية أمامها. فإسرائيل تجاهد حالياً من أجل إبرام اتفاق مع إدارة أوباما بعدما كانت ترفض ذلك أثناء المفاوضات على الاتفاق النووي مع إيران. ويبدو أن إدارة أوباما تحاول تأكيد ما سبق وحذرت منه من أن العرض الذي قدّمته سابقاً لن يكون متوفراً بعد التوقيع على الاتفاق النووي. وحالياً ترفض الإدارة الأميركية زيادة مساعدتها العسكرية لإسرائيل بأكثر من نصف مليار دولار عما كان مقرراً في الماضي. لكن إسرائيل التي كانت تأمل في الحصول على أكثر من خمسة مليارات دولار سنوياً في العقد المقبل صارت تتمنى أن توافق إدارة أوباما على أربعة مليارات وليس على ثلاثة ونصف.
ولم يكن صادماً اجتماع بنيامين نتنياهو مع مفوضة السياسة الخارجية الأوروبية فيديركا موغريني في الشهر الفائت، وكأن لا شيء بينهما بعد إعلان إسرائيل مقاطعتها لنشاطات الاتحاد الأوروبي إثر قرار وسم بضائع المستوطنات. ابتلع نتنياهو وقادة اليمين في إسرائيل ألسنتهم وصاروا يتحدثون عن تطوير العلاقات مع أوروبا، رغم أنهم قبل ذلك بأيام كانوا يصرخون بمقاطعة أوروبا. لكن الحقائق عنيدة، كما هي واضحة. أوروبا هي الشريك التجاري الأكبر لإسرائيل ولا يمكن لإسرائيل تجاهل إرادتها.
ومع ذلك لا يبدو أن نتنياهو يتعلّم مما يجري. فالاتحاد الأوروبي شيء وكل واحدة من دوله شيء آخر. وهذا كان موقفه من تصريحات وزيرة الخارجية السويدية ومن قرارات البرلمانات الأوروبية بشأن الاعتراف بفلسطين. وكان هذا موقفه من المبادرة الفرنسية التي تعني أكثر من أي شيء آخر أن الأوربيين ملوا من استمرار الصراع والسكوت عن عنجهية إسرائيل، وهم على استعداد للتدخل عبر مؤتمر دولي أو عبر قرارات في مجلس الأمن لإنهاء هذه المسألة.
ويدل موقف رئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون، الذي أعلنه في البرلمان حول أن الاستيطان في القدس الشرقية يبعث على الصدمة، إلى واقع التغير الكبير في مواقف الدول الأوروبية. فكاميرون من بين أبرز أنصار إسرائيل في الغرب، لكنه هنا لا يختلف عن آخرين تمقتهم إسرائيل في موقفه من الاستيطان باعتباره عملاً غير شرعي ومخالف للقوانين الدولية. ولا يغير من الأمر شيئاً إعلان إسرائيل أنها سجعل العام المقبل عام احتفالات يوبيلية بالذكرى الخمسين لـ «توحيد القدس».
في كل حال كثيرون في العالم يبتعدون عن إسرائيل وحملة المقاطعة الدولية لها المعروفة باسم BDS تكتسب كل يوم زخماً وتؤثر بشكل متزايد ليس فقط في الرأي العام وإنما أيضاً في مواقف الحكومات. ولكن إسرائيل وحكومتها تزداد تعنتاً وهذا ما يجعلها بحاجة متزايدة إلى مواقف صادمة. ويفسّر معلقون إسرائيليون مواقف الدول الأوروبية، خصوصاً موقف كاميرون الأخير الذي حمل فيه على الاستيطان، وخصوصاً في القدس الشرقية بأنها رسائل تحذيرية صريحة: صداقة لإسرائيل ولكن داخل الخط الأخضر.
وتزداد المخاوف في إسرائيل من أن دولاً مثل بريطانيا وألمانيا ممن حاولت في الماضي كبح المحاولات الفرنسية أو النيوزلندية أو السويدية لتحريك التسوية عبر المحافل الدولية، صارت تقترب من الاندفاع إلى اتخاذ الموقف ذاته. ففرنسا ليست وحيدة في مساعيها عبر المؤتمر الدولي أو عبر مجلس الأمن. وهي تحظى تقريباً بنوع من غض طرف أميركي وربما بتشجيع أوروبي متزايد.
ومن المؤكد أن ردود الأفعال الإسرائيلية الفظة على المواقف الأميركية والأوروبية تزيد من حدة الخلاف معها. وهذا واضح من المواقف التي أبداها أعضاء كونغرس من الحزب الديموقراطي الذين يرون أن نتنياهو ألحق ضرراً بليغاً بالعلاقات مع أميركا، لأنه جعل إسرائيل موضع خلاف بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي.
وفي الخارجية الإسرائيلية تابع المهنيون بقلق ما يحدث من مواقف في العواصم الأوروبية، ويرون أن إسرائيل وفي كل يوم تخسر المزيد من الأصدقاء، وأنه من دون أفق سياسي يصعب الحديث عن تغيير الوجهة واكتساب أصدقاء.