لم تكن وضعية حزب الاتحاد من أجل الجمهورية وضعية طبيعية خلال السنتين الماضيتين، فبعد حسم معركة المرجعية ظهرت تحديات أخرى للحزب كان من أصعبها الجمع في خطابه السياسي والإعلامي بين أمرين في غاية التناقض.
الأول : فتح ما بات يُعرف بملف فساد العشرية، وقد كان دور الحزب ونوابه حاسما في فتح هذا الملف، ذلك أنه لم يكن بالإمكان التفكير أصلا في تشكيل لجنة تحقيق برلمانية من دون تحمس نواب الحزب؛
الثاني: أن أغلب من احتلوا واجهة الحزب السياسية والإعلامية خلال العشرية الماضية وعُرفوا ـ بالتالي ـ بالدفاع المبالغ فيه عن العشرية ومنجزاتها، هم الذين تولوا ـ أو على الأقل طائفة كبيرة منهم ـ الحديث عن فساد العشرية خلال العامين الماضيين!
لا شك أن هذا التناقض الكبير قد أربك الرأي العام، وقد أثر سلبا على تسويق إنجازات النظام، وخاصة ما يتعلق منها بفتح أكبر ملف فساد في تاريخ البلاد، كما أنه قد أوقع أولئك الذين جمعوا بين تصدر الواجهة خلال العشرية والترويج لها، وتصدر الواجهة ما بعد العشرية والحديث عن فساد تلك العشرية، قد أوقع أولئك في تناقض كبير، وأظهرهم في مواقف لا تليق كانوا في غنى عنها.
أن تبقى واجهة حزب الاتحاد من أجل الجمهورية في فترة "فساد العشرية"، ومن بعد ذلك في فترة "محاكمة العشرية" هي نفس الواجهة تقريبا، فهذا أمرٌ كان ـ وسيبقى ـ في غاية الإرباك للرأي العام الوطني، ومن الراجح أن استمراره سيضع الحزب في موقف انتخابي صعب في أول استحقاقات يتم تنظيمها مستقبلا.
خلال الأسابيع الماضية تم تداول تسريبات تتحدث عن استياء بعض قادة الحزب "القدامى" من اختطاف الحزب من طرف بعض المنضمين الجدد (عادل؛ راشدون ..إلخ)، ويعني ذلك بلغة سياسية فصيحة وصريحة أن أولئك "القدامى" يريدون الحزب أن يبقى على حاله الذي كان عليه من قبل تنصيب الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، وأنه لا مكان في الحزب للذين حلوا أحزابهم أو انسحبوا من أحزاب معارضة كانوا يتولون فيها مناصب قيادية للانخراط في حملة المرشح محمد ولد الشيخ الغزواني.
إن ما يُثار من نقاش حول هذا الموضوع يستوجب منا طرح السؤال التالي :
أي واجهة سياسية وإعلامية تُناسب الحزب في هذه المرحلة؟
هذا سؤال هام سأحاول أن أجيب عليه من خلال هذا المقال، ولكن، ومن قبل ذلك، فلا بأس بالعودة قليلا إلى بعض الفرص السياسية الضائعة، والتي لا شك أن ضياعها زاد من إرباك المشهد السياسي على مستوى المعارضة والأغلبية على حد سواء.
الشيوخ : أسوأ استثمار سياسي لأهم حدث خلال العشرية!
لم يكن إسقاط الشيوخ للتعديلات الدستورية في يوم 17 مارس 2017 بالحدث العادي، بل كان بمثابة زلزال سياسي كبير لم يُعرف له مثيلا في كل تاريخ الأنظمة الحاكمة في موريتانيا. المؤسف أن هذا الحدث الكبير لم يتم استثماره سياسيا، وبذلك ضاعت واحدة من أهم الفرص السياسية التي أتيحت خلال العشرية. بعد إسقاط التعديلات الدستورية، وبعد حل المجلس وتشكيل الشيوخ لمكتب جديد، وجد الشيوخ أنفسهم أمام ثلاث خيارات:
أولها : أن يكتفوا بالإنجاز الكبير الذي حققوه من خلال إسقاط التعديلات الدستورية، وينسحبوا نهائيا من المشهد السياسي تاركين للشعب الموريتاني وقواه السياسية مهمة الدفاع عن التصويت ب"لا" على التعديلات الدستورية .. هذا الخيار يمكن اعتباره خيارا سلبيا.
ثانيها: أن يتمسكوا بنتائج تصويتهم، ويعتبروا أن غرفة مجلس الشيوخ لا تزال موجودة على الأقل نظريا، وأن يأخذوا ـ بالتالي ـ مسافة من المعارضة والموالاة وذلك باعتبارهم يمثلون هيئة دستورية لا يمكنها أن تنخرط بشكل مباشر في العمل السياسي. هذا الخيار يعتبر خيارا مثاليا وغير واقعي، ومع ذلك فقد كان هو الخيار الذي تم اعتماده.
ثالثها : أن ينخرطوا في المعارضة ما دام النظام قد ألغى نتائج تصويتهم، وأن يناضلوا من داخل المعارضة من أجل استعادة مجلس الشيوخ.. هذا الخيار كان خيارا عمليا وذكيا، وقد تم طرحه بقوة من طرف بعض الشيوخ، ولكن لم يأخذ به.
كنتُ أحضر في بعض الأحيان لنقاشات الشيوخ في تلك الفترة حول هذه الخيارات، وكنتُ من الذين يرون أن الخيار الثالث هو الخيار الأمثل والأنسب للمرحلة، ذلك أنه كان سيأتي بنتيجتين في غاية الأهمية :
أولهما : أنه كان سيضخ دماءً جديدة في المعارضة الموريتانية، وكانت المعارضة في ذلك الوقت ـ وكما هي الآن ـ في أمس الحاجة إلى دماء جديدة، وذلك بعد أن فشلت في خلق قيادات جديدة من داخلها تشكل بديلا لقادتها التاريخيين؛
ثانيهما : أنه كان سيتيح للشيوخ استثمار تصويتهم ب"لا" على التعديلات الدستورية استثمارا سياسيا جيدا بدلا من السير في مسار بلا أفق كما حدث بالفعل.
كنتُ أحضر لتلك الاجتماعات بوصفي أمينا عاما متطوعا للمكتب الجديد الذي تم تشكيله بعد حل المجلس، وكنتُ من أنصار الخيار الثالث، بل وأكثر من ذلك فقد اقترحتُ على رئيس المجلس وبعض أعضائه أن نبدأ من بعد إسقاط التعديلات الدستورية في تسويق رئيس المجلس كمرشح توافقي للمعارضة الموريتانية في انتخابات 2019، ولكن رئيس المجلس كان يرى بأنه من غير المناسب للشيوخ أن ينخرطوا في أي عمل سياسي أو انتخابي من قبل استعادة مجلسهم، وأن أي مشاركة في الانتخابات من طرف الشيوخ ستعتبر خيانة واعترافا ضمنيا بحل المجلس.
هذا القوس الطويل الذي فتحته عن ماضي الشيوخ دون إشعار القراء، والذين قد يعتقد بعضهم ولأول وهلة أنه قوسٌ لا صلة له بعنوان المقال، قد جئتُ به هنا لأبين أن الشيوخ الذين ضيعوا فرصة استغلال المزاج المعارض الواسع الذي تعاطف معهم بعد إسقاط التعديلات الدستورية، قد ضيعوا من بعد ذلك أيضا فرصة أخرى لا تقل أهمية، وكانت هذه المرة على مستوى حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، والذي لم نسمع إلى الآن أنهم قد استقالوا منه.
وبخصوص الفرصة الضائعة على مستوى حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، والمتمثلة في عدم تجديد واجهة هذا الحزب بعد تنصيب رئيس جديد للبلاد، فلم يكن شيوخ الحزب هم وحدهم من ضيع تلك الفرصة، بل كانت هناك مجموعات أخرى بالإضافة إلى الشيوخ قد شاركت هي أيضا في تضييع تلك الفرصة الثمينة، ومن بين تلك المجموعات:
ـ نواب الحزب الذين رفضوا ـ وبقوة ـ المأمورية الثالثة؛
ـ أطر الحزب ومناضلوه الذين عبروا بصراحة عن رفضهم للمأمورية الثالثة؛
ـ أحزاب المعارضة والشخصيات المعارضة وكل الذين التحقوا بحملة المرشح محمد ولد الغزواني من خارج أغلبية الرئيس السابق، سواء كانوا قد جاؤوا من المعارضة أو من خارجها.
هذه المجموعات (وخاصة منها 60 شيخا ونائبا التي تنتمي للحزب، والتي عارضت الرئيس السابق من خلال إسقاط التعديلات الدستورية ورفض التمديد) هي التي كانت تمتلك الشرعية السياسية والأخلاقية لأن تكون هي الواجهة السياسية والإعلامية للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني خلال السنتين الماضيتين، فكان عليها أن تتحالف فيما بينها لتشكل بذلك التحالف قوة سياسية داخل الحزب يُحسب لها ألف حساب. ولكنها ـ وبدلا من ذلك ـ تقاعست في لحظة سياسية حاسمة، لم يكن يناسبها التقاعس، ولا التأخر في أخذ زمام المبادرة، ولا التردد في المخاطرة..تقاعست هذه المجموعات، وتحركت مجموعات أخرى بذكاء، وكان ما كان من غياب أو تغييب أغلب من يمتلك الشرعية الأخلاقية والسياسية لتصدر واجهة الحزب من بعد تنصيب رئيس جديد للبلاد، وقد تسبب ذلك الغياب في عجز الحزب عن بلورة خطاب سياسي وإعلامي مقنع، يناسب المرحلة، ويلقى قبولا لدى الرأي العام الوطني.
بعد تنصيب الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني كان من الواضح جدا أن حزب الاتحاد من أجل الجمهورية مقبل على أيام حاسمة، فلم يكن من المنطقي ـ ورغم كل ما كان يُقال حينهاـ أن يتعدد ولاء الحزب لأكثر من رئيس، ولا أن يُقاد البلد برئيسين.
بعد ثلاثة أسابيع من التنصيب، وتحديدا في يوم 22 أغسطس 2019، ومن قبل أن تُثار نازلة المرجعية تقدمت باستشارة مجانية إلى المجموعات أعلاه، وكان ذلك من خلال تدوينة تحت عنوان "استشارة مجانية لحزب الاتحاد من أجل الجمهورية"، وقد جاء في هذه الاستشارة المجانية : " ومن المؤكد أيضا أن في هذا الحزب من لا تعجبه تلك اللجنة (لجنة التسيير المؤقتة، وكان نائب رئيسها السيد بيجل قد تحدث بتصريحاته الشهيرة والتي أثارت جدلا في ذلك الوقت)، وفيه من يريد لهذا الحزب أن يبدأ مرحلة جديدة يكون فيها الولاء المطلق للرئيس الحالي لا للرئيس السابق.
هذه الطائفة الأخيرة أمامها الآن فرصة ثمينة للتشكل وللتعبير عن نفسها، والتعبير عن "النفس" في هذا الوقت لا يعني بالضرورة أن تصرح بأن ولاءها للرئيس الحالي وليس للرئيس السابق، فذلك أمرٌ سابق لأوانه، وإنما يعني إظهار شيئ من القدرة على التشكل والتميز، وذلك في انتظار تطورات المشهد السياسي داخل الحزب وداخل فسطاط الأغلبية الداعمة."
تطورت بعد ذلك الأمور داخل الحزب من بعد نازلة المرجعية، وغابت المجموعات التي تم تعدادها في هذا المقال، والتي كان من المفترض أن تقود ذلك الحراك، فضيعت بذلك فرصة ثمينة جدا قد لا تتكرر أبدا.
من المفارقات التي تستحق التأمل والدراسة في هذه البلاد أن الأشخاص الذين يمكن وصفهم بالأشخاص الأنظف سياسيا، وسواء كانوا في المعارضة أو الأغلبية، هم في الغالب أشخاص يمتازون بعدة صفات سلبية منها:
ـ عدم القدرة على أخذ زمام المبادرة؛
ـ نقص في الحيوية والنشاط، والذي قد يتحول إلى خمول مزمن؛
ـ عدم القدرة على توحيد الجهود والتنسيق بخصوص الحد الأدنى من المصالح المشتركة.
هذا في حين أن الأشخاص الذين يوصفون في العادة بكل الصفات السياسية السلبية، هم في الغالب أشخاص مبادرون، حيويون، ويمتلكون قدرة كبيرة على التنسيق فيما بينهم لضمان عدم تعطل مصالحهم المشتركة.
ربما تكون هذه الصفات، مع أسباب أخرى لا يتسع المقام لبسطها، قد منحت هذه الطائفة الأخيرة من السياسيين القدرة على البقاء في الواجهة مهما حدث من هزات سياسية عنيفة في البلاد، ومهما حدث من تغييرات على مستوى هرم السلطة.
إن بقاء هؤلاء في الواجهة قد يُحقق لهم مصالح ضيقة، ولكنه قد يضر كثيرا بالنظام الذي يرفعون شعار الدفاع عنه، ولا يعني هذا الكلام أنه يجب إقصاء هؤلاء وإبعادهم عن الحزب بشكل كامل، فوجود مثل هؤلاء قد يكون ضروريا للأحزاب الحاكمة، وهم بإمانكهم دائما أن يلعبوا أدوارا مهمة من خلف الستار، ولهم الحق ـ كل الحق ـ في أن يحصلوا على مكاسب سياسية مقابل تلك الأدوار والجهود، ولكن كل ذلك يجب أن لا يكون على حساب واجهة الحزب، والذي يحتاج اليوم إلى واجهة جديدة قادرة على أن تُبلور خطابا سياسيا وإعلاميا جديدا ذا مصداقية، ويمكن تسويقه للرأي العام، وإن لم يحصل ذلك، فإن الحزب الذي كان يفترض فيه أن يكون ذراعا سياسيا وإعلاميا داعما للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني ونظامه الحاكم سيتحول من داعم سياسي وإعلامي للنظام إلى عبء ثقيل، وإلى بالوعة تلتهم رصيد الرئيس. ثم إن عدم تغيير الواجهة السياسية والإعلامية للحزب، والاستمرار في التمسك بنفس الخطاب السياسي والإعلامي المتناقض ستكون لهما كلفتهما الكبيرة على النظام الحاكم، وسيظهر ذلك في نتائج الانتخابات البرلمانية البلدية القادمة.
حفظ الله موريتانيا...
محمد الأمين ولد الفاضل
[email protected]