قد يتفق الكثيرون علي أهمية تشكل ذاكرة وطنية جامعة لأهم التجارب التي مرت بها الدولة الموريتانية منذ نشأتها مع الاحتفاظ بما يفيد من تراث الأسلاف وتراكمات الماضي، تأمينًا للحاضر من كوابيس الذاكرات الجزئية وذرائع الانتقاء السلبي، الذي يقود هذه الأيام لدعوات التجزئة أو الانفصال أو الذوبان في كيانات أخري.
كما أن ظهور الكثير من النزاعات العرقية والدينية في العديد من مناطق العالم يبين خطر تفعيل ذخيرة التاريخ من طرف فئات تسعي لإعادة صياغته من منظور ماضوي تجزيئي أو ديني متطرف أو ذرائعي يبرر مختلف التوجهات الكارثية.
أما غياب أو تغييب الذاكرة، تجاهلًا أو إهمالًا عمدًا أو عن غير قصد، فقد يعرض الكيانات السياسية لأعراض مرض الزهايمر أو داء باركنسون كما يحدث للأشخاص، إذا ما أخذنا بجزء من نظرية موريس هابلفاكس للمقاربة بين ذاكرة الأفراد والذاكرة الجماعية.
فقد شهدت أوروبا صراعات فكرية بين الذاكرات بعد الحروب العالمية وݰكلت في عدة دول افريقية لجان لدراسة الذاكرة بعد رحيل المستعمر كما أنشأت هيئات خاصة بالموضوع كالسكرتارية الوطنية للذاكرة في الجزائر و "اليوم الوطني للذاكرة".
واقتباسا من نظرية مؤسس علم الاجتماع، عبد الرحمن ابن خلدون، عن الدولة من الشباب إلى الشيخوخة، فإن حفاظ الشعوب على ذاكرتها والتعامل معها بعقلانية يعدان ضرورة لتقوية جذورها الراسخة في الزمن وقيمها الملهمة أمام نوائب الأيام وخطر العصبيات التقليدية.
ونستشهد بمقولته "إن العمران البدوي أصل للعمران الحضري" لواقعنا رغم دور العامل الخارجي الحاسم في توجه التاريخ المحلي.
فالمجال العمومي يبقي مفتوحًا لطغيان ذاكرات شفهية أو مستوردة أو انهزامية يغلب عليها الطابع السلبي (النهب والغبن والإحباط والعبثية وأشكال اليأس) في الخطابات السائدة في غياب نظرية وطنية واضحة المعالم.
كما أن اضطراب المواقف السياسية ينم عن اشكال من البحث عن الذات وتقليص الأمل حول المطالبة بنسبة من "الغنيمة" بمفهوم د. الجابري في أديم الترحال المدني.
ويبقي واردًا في إطار تراكم التجارب الاعتراف لكل نظام حكم البلاد بمساهمته في البناء ودوره في التخريب بدل نظرية البدء من لا شيء السائدة بعد كل إنقلاب، كنوع من إعادة الذاكرة إلى الصفر لعدم تفعيل وظيفتها سابقًا.
إن دعوات إعادة كتابة التاريخ الوطني ونشر مجموعة مذكرات "شاهدة على العصر" (مذكرات رؤساء سابقين، إداريين ورجال أعمال واكبوا ميلاد الجمهورية الأولي) وإطلاق أسماء ذات بعد تاريخي علي بعض شوارع العاصمة إضافة إلا زيادة الوعي بأهمية التخليد (بطولات المقاومة، ذكري تأسيس بعض الهيئات …) تنم عن اهتمام الأجيال الشابة بمعرفة ماضيها القريب و البعيد.
ان اختفاء شخصيات وطنية واكبت مراحل مهمة من تأسيس الدولة وشهدت على أحداث مفصلية (مثل أحمد باب ولد أحمد مسكه، مصطفي ولد بدر الدين، عائشة كان، محمد يحظيه ولد بريد الليل وغيرهم رحمهم الله) يثير اشكال ما احتفظوا به معهم من أسرار لم يبوحوا بها قد تساهم في إضاءة جوانب من تشكل الواقع الحالي.
كما أن بث بعض البرامج الوثائقية حول انشاء العاصمة نواكشوط وسلسلة المقابلات الهامة مع من واكبوا التأسيس (كالصفحة الأخيرة ل د. الشيخ سيد عبد الله) و "حكاية مكان" و "شاهد علي العصر" ساهم في نشر اهتمام الرأي العام بفهم تسلسل الأحداث الوطنية وتفاصيلها.
إن إثارة شذرات من الماضي في برامج "كنوز"، "زمن الفتوة"، " أعلام"، "عيل لكباح" مشاهير" إضافة إلي نشر كتب عن تاريخ الإمارات و المدن القديمة و الشخصيات الشهيرة غذت ذلك الاهتمام إضافة الي دور هيئات كالمتحف الوطني و معارض الغرفة الموريتانية للتجارة و الصناعة حول تاريخ العملات و المنتوجات المحلية، أمور ساهمت كلها في زيادة الوعي بتسجيل الأحداث و البيانات.
فتطور فضاء التواصل الحديث والتداول المرئي والمسموع لمنتجات الثقافة التقليدية وقصص القدماء كونت مجتمعة حافزًا للتفاعل مع ذلك التراث الرافض للاختفاء يتعدي مرحلة الحنين.
ومما هو بديهي أن الدولة الموريتانية المعاصرة تشكلت على أنقاض وبقايا إمبراطوريات وممالك وإمارات ومشيخات جمعت شعوبا شتي وانصهرت في بوتقتها ذاكرات جماعية لقبائل واثنيات ومجموعات حضرية (مدن القوافل، أودية المناطق الجبلية، قري الضفة مثلا) وأنماط حياة (زراعية، بدوية، صيدية صحراوية أو ساحلية) قادها المطاف للواقع المركزي الجديد حاملة ما تبقي من انساق عاطفية وفكرية لم تندثر مع تلاشي الإطار التقليدي ونمط الحياة الضارب في القدم.
رصيد يستحق الاعتبار الموضوعي ومنهج الأخذ والرد والأرشفة ولا تزال أشلاء ذلك الماضي وأصداء أساطيره تراود وجدان الكثيرين بألوان شتي رغم سماكة النسيان وتعدد الثقوب والحلقات المفقودة هنا وهناك، مشكلة نوعًا من "اللاوعي الجماعي" حسب عبارة عالم الاجتماع كارل يونج.
من هذا المنطلق تنبثق اشكالية التراث (الإيجابي والسلبي والمخضرم…) وتثمين المشتركات وفك الألغام الماضوية وتوسيع دائرة الوعي بالثوابت الجامعة قبل تأسيس الدولة الوطنية التي "ابتلعت" كل تلك المكونات مثل كائن "التنين" (Léviathan) ذو الرؤوس المتعددة عند توماس هوبز ونسجت خيوط أسطورتها الخاصة.
كما أن حجم انمحاء واندثار الأشياء في محيط الصحراء ولد ظاهرة الزهد في الحفاظ على قيمة الموروث طالما المصير الحتمي هو الفناء أمام عاتيات الزمن: "الرحالة ماه اعمار….." و "الدنيا طبيعتها النفشان ".
مخزون من الحكمة والتأمل خلده الأدباء وواكبه على المستوي الشعبي فائض من التنازل عن قيمة الرمزيات والاكتفاء باجترار النكبات والآلام وكوارث الانسان المحاصر في بيئته.
و تبقي إشكالية تقويم الماضي-الحاضر و فهم تسلسل احداث الحاضر-المستقبلي في خضم "تسارع وتيرة التاريخ" زمن العولمة بتعبير دانيال هاليفي في صميم الاهتمام بوجود بذور جامعة لشتات سبق نشأة الدولة مع ضرورة فك طلاسم الغموض و التناقض بينه مع "العقد الاجتماعي" (Le Contrat Social) الجديد بعبارة جان جاك روسو مطروحة للعقل الموريتاني المعاصر إضافة لصدء شروخ شكلت سراديب نازفة مازلنا نصطلي ببقايا آثارها : ايام حروب الماضي ، مخلفات العبودية، حرب الصحراء، مأساة أحداث 1989, كوابيس الانقلابات و كوارث الجفاف و الفقر و نقص مقومات البنية التحتية .
تشكل فترة الاستعمار وما واكبها من مقاومة بطولية ومداهمة "عقلانية" إحدى المراحل المفصلية في الوعي الوطني وتشكله التدريجي لمختلف دول المنطقة. كما أنها تحمل ايضا أنساقا من اختلاف الرأي داخل النخبة والشعب في طريقة التعامل مع المحتل لا يزال توفيق تناقضها مطروحًا بعد رحيله.
وتأتي مرحلة الاستقلال حاملة بصمات جيل "التأسيس" وتناقضات رواده (سيد المختار انداي ، المختار ولد داداه، حرمة ولد ببانه …رحمهم الله) مع الاختلالات المتعلقة بوصاية المستعمر و تحديات إنشاء دولة فوق الرمال و بين أطماع القريب و البعيد.
وثمة عوامل عدة تضافرت في اتجاه دفن الذاكرة أو تلاشيها مثل ضياع الآثار، زحف الرمال والأسمنت المسلح، الهجرة الجماعية إلي عاصمة حديثة النشأة مع الخوف لدي القادة الجدد من إيقاظ احقاد الماضي والزهد المفرط في الرمزيات و الانهماك في معركة البناء و عقلية المجتمع الاستهلاكي الدائر حول اللحظة و الملموس …اضافة لصعوبة ترتيب الأحداث الوطنية المتضاربة و وصاية الإطارات التقليدية (القبيلة، الجهة، الفئة، الأسرة أحيانًا) علي قضايا ذات بعد وطني مما يجعل “تأميمها " واردا.
ومن الأعباء المنفرة أحيانًا في إشكالية الماضي إثارة المظالم التاريخية (العبودية، التراتبية، التبعية…) وتصدعات الكيان الوطني التي سببتها أحداث أليمة وتراكمات تستحق التحليل لأخذ العبر منها وضمد الجراح في إطار مصالحة مع الذات بدل إحالتها المستمرة لمجال المحظور والمسكوت عنه والمعقد الخوض فيه والمشحون عاطفيًا.
من هنا يتأتى منطق الاعتراف بالمظالم التاريخية أو الظرفية وإنصاف من اكتووا بجحيمها وكذلك العرفان بتضحيات الأجيال السابقة قديما وحديثًا في دورها الداعم للمشتركات وقيمة موروثها المعنوي والعلمي والبطولي والإنتاجي والفني والأدبي والمعماري ولامادي…
ولنا أن نتساءل عن المعالم والدلائل والثوابت والجسور والإشارات في فضاء سبق رسم حدود الدولة وتفصيل خريطة عاصمتها.
إن حجم التناقضات وعمق ثقوب الذاكرة النظرية يستدعي مجهودا أبستمولوجيا (معرفيا) متعدد التخصصات من مجموعات باحثين يشخصون هذا التراكم الهائل من الأحداث لترتيبه بشكل يعطيه معني مبسط ومركز مثل اختزال بطاقة التعريف الرقمية للعديد من المعلومات الشخصية و القرص الإلكترونية لآلاف المعطيات المرتبة في نوافذه.
في هذا الإطار قد يبدو واردا إثارة إشكالية الأحداث المفصلية والرموز التاريخية التي تشكل مرجعية لتشكيل ذاكرة جماعية تحمل هموم الشعب وتطلع الأمة الموريتانية لتجسيد نوع من وحدة المعني للمصير المشترك، رغم تنوع الخلفيات، والذي يحمل بصمات الكثيرين رغم فائض التعتيم والضياع والإهمال لكنوزه.
كما أن سحب السياج النفسي (الأسري والمحلي) المحيط بالكثير من الشخصيات التي ساهمت في تشكل الماضي والحاضر قد يساهم في إعطاءها البعد الوطني المستحق.
وهنا يتأتى تأصيل الذاكرة وبناء صرحها الحامل لروافد ضاربة في الزمن، جسورًا شاركت في تشييدها أنامل وأفئدة غابت ولم تختفي وبقيت بعد أن نسينا كل شيء.
وسعيا لإنصاف المؤسسين ومن سبقوهم يتنزل التفكير فيما يمكن أن نسميه الأنماط الموريتانية التي ساهمت في تشكل هوية وطنيه متعددة الأعراق والثقافات.