وطن للأنباء: ليس من الغريب أن يتوجه إليك أحدهم في موريتانيا ليحدثك بالفصحى خارج إطار المناسبات الرسمية، خصوصاً إذا كان طالباً أجنبياً. ففي الوقت الذي يحرص كثير من الأثرياء والشخصيات في الدولة على تدريس أبنائهم في مدارس أجنبية تعتمد اللغة الفرنسية لغة أساسية، تستقطب البلاد عدداً متزايداً من الأجانب الذين يتوافدون إليها مع بداية كل عام دراسي، للتفرغ لدراسة اللغة العربية الفصحى في المعاهد والجامعات والمحاظر الموريتانية.
الدوافع والمحفزات
تتنوّع الأسباب التي تدفع الطلاب الأجانب إلى تعلّم العربية، بين اعتبارها مفتاحاً لفهم الإسلام، وبين الرغبة في الاطلاع على الثقافة والانفتاح على المجتمعات العربية. وتوفر موريتانيا عوامل جاذبة عدّة للطلبة الأجانب الراغبين في تعلم العربية، كانخفاض تكاليف السكن والمعيشة نسبياً، وتوفّر التعليم المجاني وشبه المجاني، وسهولة الإجراءات الرسمية اللازمة للإقامة والدراسة.
عندما كنت أدرس في بلدي الأم، كنت أسمع الأساتذة يردّدون دائماً أن القرآن نزل في مكة وقُرئ في مصر وحُفظ في موريتانيا
وتختلف الأساليب والمناهج التي يختارها هؤلاء في مسارهم الدراسي، لكن الهيمنة تبقى للمنهج التقليدي الذي يعتمد على دراسة أصول النحو والصرف في "المحاظر"، وهي مراكز علمية تقليدية تُعنى بتدريس القرآن الكريم وعلوم الفقه واللغة العربية والمنطق، وفق مناهج وطرق طوّرها مشايخ وأساتذة هذه المدارس الأهلية، التي حافظت مناهجها العريقة على فعاليتها، حتى في ظلّ التطوّر الرقمي الراهن وعصر تدفق المعلومات والأجهزة الذكية.
وبفضل انتشار هذه المؤسسات التعليمية التقليدية، اكتسبت موريتانيا شهرة عربية ودولية في مجال تعليم اللغة العربية، إلى حد جعل الكثير من الوافدين يُعبّر عن دهشته من مستوى إتقان الموريتانيين للغة العربية مقارنة بغيرهم من العرب. وفي هذا الصدد، يقول زارع عبد الله ظافر، الأستاذ السعودي السابق في معهد الدراسات الإسلامية في نواكشوط: "لفت انتباهي أثناء التدريس هناك، جودة التكوين اللغوي والفكري لدى الطلاب، بل لدى الناس عامة، فأنّى التفت تجد الناس يتحدثون اللغة العربية الفصحى بطلاقة، ويجيدون الكتابة بها من دون عناء".
ولعل ذلك يعود، حسب بعض الباحثين، إلى الطريقة الخاصة التي يتّبعها الموريتانيون في دراسة اللغة العربية وتدريسها. ويوضح الباحث اللغوي إسلمو سيد أحمد لرصيف22 أن "المنهج القديم كان يعتمد على التلقين والتكرار والتركيز على حفظ القرآن أولاً، ثم دراسة الفقه والأدب والشعر، كما أن الموريتاني يتّسم بشيء من الفصاحة والوضوح في مخارج الحروف. واللهجة المحلية قريبة جداً من اللغة الفصحى، مع أنّ كل بلد عربي يظن أن لهجته هي الأقرب إلى الفصحى".
وفي هذه المؤسسات المنتشرة في أنحاء موريتانيا، يلتقي الطلاب من مختلف أنحاء العالم، فتشكّل اللغة العربية وسيلة التواصل الوحيدة بين الجميع، لعدم وجود لغة مشتركة غيرها بين الأوروبيين والآسيويين والأفارقة والعرب والطلاب الموريتانيين. يقول عثمان، وهو طالب من غينيا: "عندما كنت أدرس في بلدي الأم، كنت أسمع الأساتذة يردّدون دائماً أن القرآن نزل في مكة وقُرئ في مصر وحُفظ في موريتانيا. وحين تجاوزت امتحان الثانوية العامة، نصحني الكثير من الأساتذة بمتابعة دراساتي الجامعية في هذا البلد. وهكذا قرّرت المجيء إلى هنا والالتحاق بالدراسة المحظرية".
أما باولو غارسيا، فقد وصل إلى موريتانيا قبل 3 سنوات، ليعمل أستاذاً للغة الإسبانية في جامعة نواكشوط. لكنّه اغتنم فرصة وجوده ليدرس اللغة العربية. ويقول: "درست العربية في تونس والمغرب وفرنسا وإسبانيا، وحالياً أدرسها في موريتانيا بمساعدة أستاذ موريتاني، وهو متخصص في اللغة العربية. أعتمد أساساً على مشاهدة البرامج، وتصفح الصحف والمواقع الالكترونية بالعربية، وأتحدث الفصحى في الشارع مع الناس العاديين، ومع الطلاب والأساتذة في الفضاء الأكاديمي والثقافي. ولحسن الحظ، التقيت هنا بكثير من الموريتانيين الذين ساعدوني كثيراً في تعميق معارفي ومهاراتي كتابياً وشفهياً". ويضيف: "يمكنني القول إن تجربتي الشخصية هنا مفيدة للغاية".
العربية مجاناً
إلى جانب الدراسة في المحاظر أو عن طريق أساتذة خصوصيين، توفّر مؤسسات التعليم العمومية إمكانية دراسة اللغة العربية مجاناً في كل المراحل التعليمية. ومن أهم هذه المؤسسات، قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة نواكشوط، وهو أول قسم تأسس في كلية الآداب والعلوم الانسانية في الثمانينات، والمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية الذي تأسس عام 1979، وهو مؤسسة علمية متخصصة في مجال التعليم العربي - الإسلامي، والدراسات الفقهية واللغوية، فضلاً عن الجامعة الإسلامية في مدينة العيون شرقي البلاد، ومركز تكوين العلماء، ومعهد تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، من بين مؤسسات أخرى.
عُروة لا انفصام لها
عرف الموريتانيون اللغة العربية يوم عرفوا الإسلام. واكتست هذه اللغة أهمية بالغة نتيجة ارتباطها بالدين، فأصبحت لغة العلم والنخبة، كما التداول اليومي، لحدّ جعل اللهجة المحكية في موريتانيا من أقرب اللهجات العربية إلى الفصحى.
إلا أن الاحتلال الفرنسي للبلاد وفرض التعليم الفرنسي الإلزامي، أنتج نخبة لا تزال حريصة على التشبث باللغة الفرنسية، حتى بعد الاستقلال الوطني، ما جعل البلاد تعيش انفصاماً متعدد المستويات، أفرز نظامين تعليميين متباينين، وأشعل جدلاً لا يتوقف بين أقليّة مدافعة عن اللغة الفرنسية، وأكثرية تطالب بتفعيل الطابع الرسمي للغة العربية كلغة رسمية وحيدة للبلاد.
وفي الوقت الذي يشتكي فيه حملة الشهادات العليا وخريجو التعليم العربي الموريتانيون من التهميش والإقصاء داخل الدوائر الرسمية لحساب المتعلمين في النظام الفرانكفوني، يعتبر غالبية الأجانب الذين يدرسون اللغة العربية في موريتانيا، أن اكتساب هذه اللغة تحديداً، يعدّ امتيازاً نادراً سيتيح لهم فرص التوظيف عند العودة إلى بلدانهم الأصلية.