جبريل ولد عبد الله (1943-2020) ... أبو العباس أبرهام

أربعاء, 12/30/2020 - 17:36

الإعلام نت - سأحاوِل هنا استذكار جبريل عبد الله، الذي رحَل اليوم، وكان شخصية محورية في التاريخ الحديث لموريتانيا.  لم أكن مجايله، ولكنّنا تعلّمنا أنّ مجايليه، وقد جرّبناهُم في وفيات الأعيان، لا يقولون شيئاً، ولا حتّى في المذكِّرات. ربّما تعلّموا هذا من الجيل الذي سبقهم. أمّا الصحافة فغالباً تبدو غير عارِفة بتواريخ الرجال والنساء.

 
ولد عبد الله أحد رجالات الدولة الكِبار. ذكَرتُ في غيرِ هذا أنّه كان من أواخِر رجال الدولة وأنّ نكبته الطائعية كانت من أواخِر أعمال المحاسبة السياسيّة، التي تحوّلت في العهد الدِّيمقراطي إلى مغاضبة وترضية، ON-OFF. كان وعاً من أبو مسلم الخراساني وأبو سلمة الخلاّل. لعلّ ماقُلتُه كان مبالغة. ولكن فكرته أنّه كان مؤسِّساً للدولة الطائعية وفي نفس الوقت ضحيتها. 

 ولِد جبريل ولد عبد الله لأبٍ فرنسي هو سامبير Cimper، الذي عمل إدارياً استعمارياً في كيفة. اعتنَق سامبير الإسلام، وتسمّى بعبد الله. أما غابرييل، التي هي اللفظة الفرنسية لجبريل، واسم الإداري الفرنسي لكيفة، غابرييل فيرال، فستُحوّل لاحِقاً إلى اللفظة المحلية، جبريل. ولكن هذا سيأخُذ وقتاً. ستظلّ أوراق جبريل، كما شهرته المحلية، تحمل اسم سامبير حتّى وقت متأخِّر من الثمانينيات. درس جبريل في كيفة، حيث فتحت مدرسة استعمارية، ثمّ واصَل دراساته الثانوية في نواكشوط ثمّ لاحِقاً في دكار حيث تابع في ثانوية فان فولوينهوفين. 

كان تأسيس جيش وطني في 1961 وقعاً قوياً على جبريل الذي قرّر الانتساب له. فتخرّج من مدرسة الكتائب المدرّعة في فرنسا في سان ماري في فرنسا، وتخرّج منها في 1963، حيث عمل برتبة تحت ملازم في أطار في الفترة 1966-1966. بعد ذلك تابع دراساته العسكرية في فرنسا وتخرّج في  من مدينة بورغ1970، هذه المرّة كإداري عسكري. وسرعان ما رُقي في نفس العام إلى مدير للعتاد والذخيرة. وبطبيعة الحال فإنّه كان داخِلاً في صفقة الجيش في انقلاب 1978، وإنْ لم يكن نافِذاً فيه. بعده رُقِي إلى قائد للمنطِقة العسكرية السادِسة، ماجعله على الواجِهة، وبالأخصّ أن المنطِقة السادِسة سرعان ما صارت حامية نواكشوط، جاعِلة من قائدها في العهد العسكري حاكِماً عملياً  للعاصِمة.

مع استقرار الانقلابات على التمكّن الهيدالي بدأ جبريل يُحقّق تقدمه، عاقِداً صفقة مهنية مع المُقدّم. فصار، بعد أن رُقي إلى رتبة مقدّم، نائباً لقائد الأركان. وربما لم تكن هذا التعيين مهماً بالنظر إلى التخوّفات في فترة القلاقِل من تقوية العسكريين الطموحين. ولكن جبريل سرعان ما استغلّ هذا المنصَب الوجيز في التصدِّي، إلى جانب المؤسّسة العسكرية، لانشقاق، ومحاولة انقلاب 16 مارس، 1981، وظهر كثقة لهيدالة. ومباشرة في ابريل عيّنه هيدالة وزيراً للداخِلية، التي بدأت تضطلع بالمهام الأمنية وتُترجِم مشروع عسكرة الإدارة المدنية، الذي تصاعَد مع العسكر. حظي جبريل بسمعة مهينة لم تخلُ من استشراقٍ أنسابي. فتنقّل جيئةً وذهاباً من الداخلية إلى وزارة التجهيز الحيوية.

يبدو أنّ جبريل ولد عبد الله تآمر مع ولد الطايع في انقلاب 1986، فصار وزيراً للداخلية وجمِعت له معها قيادة الأركان العامة، بعد إقالة أنْ أمادو بابلي. فصارَ بذلك أكثر شخصٍ سلطات في موريتانيا بعد ولد الطايع. وعمل على توطيد حكم اللجنة العسكرية للخلاص الوطني من خلال تأمين السياسة ومراقبة مكامن الخطر. وسرعان ما تحوّل هذا إلى رُهاب. كانت نظرته أمنيّة متشكِّكة وقد قاد سلسلة التصديات لخصوم النظام، فصار بذلك نوعاً من تاليران. أغلب الظن أنّ جبريل هو من أقال بابالي بعد اتهامِه بالتكاسُل إزاء "فلام"، التي طاردها جبريل في الجيش والداخلية. بعد تعيين أحمدو ولد منيه على الأركان تفرّغ جبريل لبسطِ يدِه الأمنية من خلال الداخِلية، خالقاً بذلك نظاماً استخباراتياً ورقابياً قوياً. أغلب الظن أنّه بدون سامبير ماكان لنظام ولد الطايع أن يستتب.

ولد جبريل لم يكن مجرّد تاليران. كان أيضاً فوشى. فقد لعب أدواراً سياسيّة. بل إنّ بعض المحلِّلين الغربيين نسب إليه تعبئة الحراطين لصالِح نظام ولد الطايِع. فكان بذلك نسخة جديدة، أكثَر مهنية وربّما أكثَر روبن-هودية، من بريكة ولد امبارِك. كان جبريل أيضاً يتحالَفُ مع البعثيين وبدأ يُدافِع عن سياسات تعريبيّة اعتُبِرت مرّة أخرى في نمطيات الأنساب مفارقة.

ربّما بسبب هذه اليافِطة البعثيّة كان جبريل مسؤولاً عن التصعيد مع السنغال، فقاد جناح الصقور في اللجنة العسكرية للخلاص الوطني. من المؤكّد الآن أنّ التصلّب الديبلوماسي مع السنغال قد ازداد بُعيد فشل المفاوضات التي مثّلها عن موريتاني جبريل ولد عبد الله في السنغال والتي قابَل فيها نظيره السنغالي، أندريه سونكو، في 1989. رفض جبريل التنازل للسنغال لحلّ مشكلة أحداث النهر. وسرعان ما تحوّل التوتّر الحدودي إلى حرب تكاد تكون رسمية، ثم قطع العلاقات بين البلدين. 

بدأ جبريل يفقد سلطته في مطلع 1990 عندما تحرّك ولد الطايِع بسرعة: وضعه تحت الإقامة الجبريّة في كيفا وأعفاه من مهامِه في الداخلية (لصالِح سيدينا ولد سيديا)، رغم أنّ التعديل السابِق أعادَ إليه الثقة. سارت الشائعة في نواكشوط أنّ جبريل كان يروم انقلاباً، وان حركة ولد الطائع كانت وقائية. أمّا في السنغال فقد حُلِّل أنّ ولد الطايع، بتخليه عن الصقور، قد بدأ يذعن للسلم. من ناحية أخرى اعتبِر الأمر تخلياً عن البعثيين، الذين كلّفت سياستهم ولد الطايع سياسياً. لن يخرج جبريل من السجن الإجباري إلاّ في أواخِر العام.

من جهته حاول الطائع الخروج من العزلة بالانفتاح دولياً وفك الارتباط عن العراق المحاصَر (وإن كان هذا سيأخذ وقتاً). وحاول ذلك بالانفتاح الديمقراطي. أمّأ جبريل فقد تحرّك أيضاً بسرعة: حاول دخول السياسة الشعبية فالتحق بتحالف الحركة الوطنية الديمقراطية وحركة الحُر وغيرهما، المعروف بالجبهة الديمقراطية الموحّدة لقوى التغيير (فديك) فاعتُقِل مباشرة إلى جانب قيادات الجبهة، ومنهم بالتأكيد الرأس المُدبِّر، المصطفى ولد بدر الدِّين (1938-2020).

مع انتصار ولد الطايع تخلّى جبريل عن الطموحات السياسية وانصرَف إلى الأعمال والتجارة. قيل بأنّه تصالح مع ولد الطايع في 1995. ومهما يكن فإنّ الأخير قد أصدَر عفواً عن المتورِّطين في أحداث القلاقل. وقد تمّ تجاوز التوتر بين شخصيات الماضي بحيث أنّ ولد الطايع عيّن جبريل على شركة لتقشير الأسماك في نهر السنغال، ما اعتبِر في أوساطٍ معيّنة تهكَماً طائعياً. 

بقي جبريل يُعاهِد أعماله وحياته العائلية في كيفة لأغلب الوقت. وفي 30 ديسمبر أسلَم الروح. كان محبوباً في أوساطِه وكتوماً ولبقاً مع الذين تحادَث معهم.

من صفحة الدكتور على الفيسبوك