ماذا حدث حتى تخرج، أنت المعروف عادة بالتواري عن الأضواء، لتلقي المواعظ على الرأي العام؟ لقد عُرفت دومًا بحرصك على السرية، وفن الاجتماعات المغلقة والمناورات غير المرئية، فلماذا تقف اليوم في موقع الواعظ الذي ينصّب نفسه حارسًا للأخلاق السياسية؟ هل يمكن حقًا القبول بأن يشرح للشعب من لم يقدم أبدًا القدوة، ومن ظل يمثل نخبة بعيدة عن هموم الناس، ما يجب أن يفكر فيه، وما يمكن أن يقوله، وما يُسمح له أن يأمل فيه؟
ففي الوقت الذي تتذوق فيه دوائر الحكم العليا هدوء القصور، يعيش المواطن الموريتاني واقعًا آخر:
في الأرياف، تقطع عائلات بأكملها كيلومترات بحثًا عن نقطة ماء صالحة للشرب.
في المدن، يجوب الشباب الحاصلون على الشهادات الشوارع حاملين سيرهم الذاتية، بانتظار فرصة عمل لا تأتي.
في المستشفيات، يترك المرضى لمصيرهم، عاجزين عن العلاج من دون الاستدانة.
في المدارس، يتكدس الأطفال في أقسام متهالكة، ليتقلص أفق مستقبلهم إلى حدود ضيقة.
في الأسواق، تلتهم موجات التضخم القدرة الشرائية وتدفع بالأسر نحو فقر صامت.
في ملف اللاجئين، تؤدي موجات النزوح غير المنضبط، ومن دون خطة إدماج فعالة، إلى ضغط متزايد على خدماتنا الاجتماعية الهشة أصلاً، وتزرع شعورًا بالتخلي لدى المجتمعات المحلية.
في ملف هجرة الشباب، يغادر آلاف من خيرة شبابنا كل عام، حامِلين معهم طاقاتهم وآمالهم، تاركين وراءهم فراغًا ديمغرافيًا ومستقبلًا غامضًا.
في المدن، تتصاعد وتيرة الاعتداءات والسرقات والانحراف، ناشرة الخوف في الأحياء وناقصةً منسوب الثقة بين المواطنين ومؤسساتهم.
هذه هي الحقيقة التي يعيشها البلد. ولهذا الشعب يُراد أن يُمنع من التساؤل حول مستقبله؟
إن التفكير في من سيحمل مشعل موريتانيا بعد 2029 ليس جريمة، بل واجب مدني والتزام أخلاقي. فالحكم يعني استشراف المستقبل، والاستشراف يعني الاستعداد اليوم لانتقال سلس غدًا. لقد علمتنا التجارب أن الارتجال هو أمّ الأزمات، وأن رفض التفكير في المستقبل هو حكم على الأمة بتكرار أخطاء الماضي.
إن الهدية الحقيقية التي يجب أن تُقدم للموريتانيين اليوم ليست موعظة عن الولاء للسلطة، بل وعد بأفق واضح. وعد بأن الغد سيكون أفضل، وأن الدولة تستعد لتزويدهم بمؤسسات قوية، وبقادة نزهاء، وبرؤية متواصلة. وعد بأن أحد أبنائهم – نزيه، وطني، كفء – سينهض لمواصلة ما بدأ، ولتحقيق ما طال انتظاره:
حكم عادل وشفاف،
اقتصاد يخلق فرصًا حقيقية،
تعليم يفتح الأبواب،
وعدالة تحمي الضعفاء وتحاسب الأقوياء.
إغلاق النقاش يعني إطفاء آخر شعلة أمل عند المواطنين. والشعب المحروم من الأمل ليس شعبًا مطمئنًا، بل شعب مستسلم، أو أسوأ من ذلك، ناقم. فالاستقرار لا يُفرض بقرارات فوقية، بل يُبنى على الثقة، والثقة تُغذّيها الاستماع والحوار والاستباق، لا أوامر الصمت.
إن دعوة السيد ولد اشروقه إلى الوحدة الوطنية قد تكون مفيدة لو لم تُستعمل ذريعة لإسكات التفكير الجماعي. فحاجة موريتانيا اليوم ليست إلى صمت مفروض، بل إلى حوار وطني واسع وهادئ يضمن أن يكون انتقال السلطة سنة 2029 انتقالًا سلسًا لا صدمة فيه ولا انقسام.
إن 2029 ليست بعيدة. وكل يوم يمر يجب أن يُستغل لبناء أسس موريتانيا أكثر عدلًا وقوة وتماسكًا. إن التفكير في مرحلة ما بعد الرئيس الغزواني ليس فعل تمرد، بل عمل من صميم المسؤولية الوطنية. فالسؤال الحقيقي ليس فقط: من سيكون الرئيس المقبل؟ بل أي موريتانيا نريد أن نورثها لأبنائنا؟ وهذا ما لن تستطيع أي تحذيرات أن تمنع شعبًا من الانشغال به.
هارون الرباني
[email protected]