الوطن، والقبيلة، والشريحة: نحو عقدٍ جامع

بواسطة محمد محمد الأمين

في الجزء الأوّل أصغينا إلى وقع الأغلال على معصم التاريخ؛ ورأينا كيف تُعيدُ الشرائحيّةُ والقبيلةُ تدويرَ التراتبيّات في لبوسٍ جديد، وكيف يُستدرجُ الحاضرُ إلى هوامش الماضي. غير أنّ هذه القراءة لا تُعيد سؤال «مَن يغلبُ مَن؟»، بل تطرح زاويةً مختلفة تمامًا: كيف نخرجُ من مثلّث التنافر إلى عقد التكامل؟ حيث يعود الوطنُ حَكَمًا لا طرفًا، وتستقرّ القبيلةُ موردَ خدمةٍ لا بديلَ دولة، وتغدو الشريحةُ رأسمالَ مهارةٍ لا رايةَ استقطاب. وحَكَمُنا هنا تعريفٌ للهوية الوطنية يجعل «نحن» أوسع من كل «أنا»: "عقدٌ أخلاقيّ وقانونيّ ووجدانيّ يربط أفرادًا متعدّدي الأصول بوطنٍ واحد، شعورُ انتماءٍ يتجسّد في لغةٍ جامعة، وثقافةٍ حيّة، وتاريخٍ متقاسَم، ورموزٍ وسيادة قانون".

مثلّث التنافر والعلاقات غير المتوازنة

تتغذّى القَبَليّة حين تَضعف المواطنة ويتراخى ميزانُ القانون. وهي لا تصرخُ ولا تعلن عن نفسها، بل تبقى هادئة، تعمل بصمتٍ نافذ: تُبدّلُ معاييرَ التوظيف والترقّي إلى ولاءٍ ونسب، وتستبدلُ مساطرَ العدالة بوجاهاتِ الوساطة، وتحوّلُ المواردَ العامّة إلى ريعٍ يُعاد تدويره عبر أنابيب القرابة. إنّها الانتهازيةُ الصامتةُ والفتّاكة، لأنّها «المألوف» الذي لا ننتبه إليه إلّا بعد أن يتسلّل إلى أدقّ التفاصيل. وهي أقوى في النفوذ العمليّ: تمتلك الأذرعَ حيث تُصنع القرارات (وساطات، شبكات موارد، تعبئة انتخابيّة)، وتستمدّ أيضًا قوتها من دورها الإيجابي كشبكة تضامنٍ وخبرةٍ محليّة ذات قيمة في الرعاية الاجتماعية وخدمة المجتمع.

وعلى الضفّة الأخرى، يعلو خطابُ الشرائحيّة حين يُعرَّف الفردُ حصريًا بشريحته، بينما تُهمَّش عناصر الهوية المشتركة: الوطن، الدين، اللغة، التاريخ. وهي نزعةٌ باتت تترسّخ في بلادنا بدرجةٍ مقلقة، حتى غدت تُزاحم الهوية الوطنية نفسها. وفي هذا المناخ ينفلت خطاب الغلوّ من لغة الإنصاف إلى قاموس الاستئصال: يُختزلُ الفردُ في شريحتِه، ويُحتكَرُ تمثيلُ «المظلوم»، ويُستدعى الماضي انتقائيًا لصناعة ثنائياتٍ أخلاقيةٍ صاخبة. هنا يمتلك الغُلاةُ مكبّرَ الصوت القوي، بينما تتراجع الدولة باعتبارها حامية للوطنية.

أمّا الوطنية، فرغم أنّها أقوى من حيث الشرعية المعيارية، إلّا أنّها على أرض الواقع تبدو أضعف: القبيلةُ تمسكُ بالمفاصل، والشرائحيةُ تمسكُ بالميكروفون، والوطنيةُ تمسكُ بالحُجّة—لكنّ الحُجّة وحدها لا تكفي ما لم تتحوّل إلى برهانٍ عمليٍّ يُرى ويُقاس. وهكذا يتكشّف مثلّثُ تنافرٍ غير متوازن.

إنجازات على الطريق

ورغم تعقيد هذا المشهد، لا يمكن إنصاف الصورة من دون التوقّف عند ما أُنجز في بلادنا على طريق الدولة والقانون. فمنذ 2015 عزّزت موريتانيا ترسانتها التشريعية بالقانون 2015-031 الذي صنّف الاسترقاقَ «جريمةً ضدّ الإنسانيّة» وأنشأ محاكم متخصّصة، مع توصياتٍ أمميّة لاحقة بتمويلها وتفعيلها. ثم تلتها خطوات أخرى، من بينها إنشاء محكمة مختصّة بقضايا الاسترقاق والاتّجار بالبشر وتهريب المهاجرين. ورغم الانتقادات الموجَّهة إلى التطبيق، فإنّ المسار التشريعي والقضائي يتحرّك إلى الأمام.

وفي 2018 أُقِرّ قانونٌ يُجرّم التمييز وخطاب الكراهية؛ وقد اعتُبر خطوةً مهمّة في السياسة الجنائية، رغم مطالبات حقوقية بتحسين الصياغة والضمانات الإجرائية لتفادي إساءة استخدامه وتوسيعه ليشمل الضحايا فعليًا. والأهمّ أنّ الاعتراف بجرائم التمييز والكراهية أصبح صريحًا في النصوص، وهو ما لم يكن مسلّمًا به قبل عقدٍ ونصف.

وعلى خطّ الإدماج الاجتماعي، أطلقت وكالة «تآزر» برامجَ لمكافحة الفقر والتصدّي لآثار الاسترقاق، إلى جانب إعادة إدماج المتضرّرين من أزماتٍ أخرى—مناخية وغيرها—في مشاريع تنموية وخدمات أساسية. صحيح أنّ جدلَ الكفاية والتوجيه يظلّ قائمًا، لكن وجود ذراعٍ مؤسسيةٍ مكرَّسة لهذه المعضلة تحوّلٌ نوعيّ يتجاوز الإقرار النظري إلى سياسات مُفعّلة.

وفي التعليم والهويّة المدنيّة، ترافقت الدعوة إلى «مدرسةٍ جمهورية» مع قمّة إقليمية في نواكشوط لقادة الساحل حول إصلاح التعليم، إضافةً إلى مشاريع ممولة لتحسين التعلّم والخدمات في الولايات الأكثر هشاشة. وعلى صعيد السجلّ المدني، أُطلِق تطبيق «هويّتي» لتسهيل النفاذ إلى الوثائق والخدمات الحكومية وتعزيز الثقة بالهوية الرقمية—وهو تفصيل تقنيّ في ظاهره، لكنه يمسّ جوهر العقد الاجتماعي حين يختبر المواطنُ كرامتَه في الشباك الإلكتروني كما في الشباك الورقي.

العقد وأركانه الأساسية

يبقى السؤال: كيف تتحوّل الوطنيّة من حُجّةٍ أخلاقية إلى خبرةٍ يوميّة تُبطِلُ صمتَ الانتهازية وصخبَ الغلوّ؟
الجواب: عقدُ تكاملٍ متين يقوم على أربعة أركان:

ميزانُ القانون. لا معنى لوعدِ المساواة إن لم يَرَه الناسُ وهو يُطبَّق. حين تُنشر الأحكام في قضايا التمييز والاسترقاق وتعليلُها علنًا، وحين تتم التعيينات على أساس الكفاءة، وتُدار المسابقات بمعايير شفافة قابلة للطعن، وتُحاصرُ الوساطة القبلية داخل المسار القانوني بدل أن تكون بديلًا عنه، يغدو القانونُ سلوكًا مدنيًّا لا نصًّا مُعلّقًا. ولن يكتمل ذلك من دون سياسةٍ رقميةٍ واضحة تزيل المحتوى المحرّض بمعايير شفافة وبحقّ الاستئناف، لأنّ الكراهية الرقمية سمٌّ يغذّي العداوات ضد الناس وضد الدولة.
عدالةُ الفرص. حين يرى المواطنُ الماءَ يصلُ إلى قريته، والطريقَ يفكّ عزلتها، والإنترنت يفتحُ نافذةً على العالم، تتراجعُ قابلية العصبيّات للاشتعال. الاستثمارُ في الولايات الأشد هشاشة، وربط الصفقات العمومية بسقوفٍ للتنوّع والإدماج، وتشجيع التعاونيات المختلطة التي تجمع أبناء قبائل وشرائح مختلفة في مشروع واحد، وتقريب الخدمات الأمنية والقضائية منه—كلّها سياسات تُطفئ وقود الاستقطاب.
سرديّة وطنية جامعة. المدرسة ليست بنايةً فحسب، بل مَعمل مواطنة: تُدرّس تاريخ جميع المكوّنات بلا وصمٍ ولا تلميع، وتُدرّب التلاميذ على مراقبة استهلاك الماء والكهرباء واقتراح «ميزانية خضراء»، وتُخرّج طلابًا يعرفون كيف يختلفون من دون أن يتخاصموا. وخارج الصفوف، تَروي الفنونُ والمهرجانات العابرة للهويّات قصّة وطنٍ واحد بتعدّد رواة. وعلى المنبر الدينيّ، حين يُؤصّل لحرمة العصبية والتمييز، يعزّز الدين وظيفته الأخلاقية: قرابة العدل فوق كل قرابة.
روحُ المواطنة. الركيزة التي تمنح الأركان الثلاثةَ نبضَها. المواطنة ليست بطاقةً نُبرزها عند الحاجة، بل عادةٌ يومية: في المدرسة منهج حيّ، وفي الجامعة وسوق العمل مشاريع مجتمعية تُحتسب أكاديميًا، وفي الإعلام «شارةُ محتوى مسؤول»، وعلى المنبر الدينيّ يُدمج «فقه المواطنة» في الموعظة كما يُدمج النشيد في الطابور. وعلى المستوى الوطني، تُستكمل الحلقة بخدمة مدنية قصيرة وأعمال تطوعية تجمع أبناء الجهات والشرائح في عمل واحد، وتمنح أصحابها الأكفاء أولوية في المنح والتوظيف. هكذا تتحوّل المواطنة من لفظ إلى سلوك، ومن واجب ثقيل إلى عادة محبوبة.

خاتمة

ليس المقصودُ أغنيةً طوباوية، بل طريقٌ سالك. لقد قطعت الدولةُ الموريتانية أشواطًا معتبرةً على مستوى القوانين والمؤسّسات والهوية المدنيّة؛ والتحدّي اليوم أن تصبح تلك الأشواط مُعاشة لا مُعلنة. حين يُرى القانون وهو يعمل، تخفتُ انتهازية القبيلة؛ وحين تُرى الفرصة وهي تتّسع، يتوارى غلوّ الشرائحيّة؛ وحين تُرى المواطنة وهي تُمارس، يشتدّ النسيجُ الوطنيّ ويتّسع «نحن» لكلّ ألوانها.
عندئذٍ نسيرُ بالتجربة لا بالشعار، بعيدًا عن مثلّثٍ متشظٍّ… إلى ضوء عقدٍ مُحكَم، وتغدو موريتانيا دولةَ المواطنين والمواطنة، لا دولةَ التشرذم والاصطفاف.

البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي)