لم تُنعت الدبلوماسية بالفن أو التفنن إلا في أدبيات أهل الإعلام..أو خلف رايات الأدب
ولعل هذا التوصيف يلاحق أحد مظاهر المرونة فيها وهو الارتجال !
أما الحقيقة الجامدة فهي أن الدبلوماسية علم من العلوم الإنسانية جعل الأعراف نصوصا حين وثَّق التعاون بعد التفاوض و التعهد بصراحة القانون .
تقديم
انتظر العالم حتى صبيحة اليوم الثامن من يناير كانون الثاني للعام 1918
ليعبر إلى مبدأ الدبلوماسية العلنية ليس كسبيل مثالي واعد نحو خلق السلم وفض الإشتباك فحسب إنما تجاوز المبدأ عمليا ذلك حين أسس لبناء سبل التعاون و ازدهار التعايش على كوكب الأرض
كان ذلك حين خطب الرئيس الأمريكي الراحل وودرو ويلسون أمام الكونغرس معلنا عن مبادئه الأربعة عشر علها تكون الأساس الأمثل للاتفاق الأممي ما بعد الحرب العالمية الأولى وانتصار الحلفاء ، هذه النظرية المثالية التي ستعرف بالمبادئ الويلسونية ..
كانت هي أول ورقة مصدرية لمعاهدة فرساي .
في غرب إفريقيا وتحديدا بعد أربعة عقود من إعلان المبادئ الويلسونية ستولد جمهورية مترامية الأطراف على أديم الصحراء الفاصلة بين شمال إفريقيا المستعرب و الامتداد الإفريقي الأسود والخصب ، لم يكن لهذه الجمهورية ماهية معلومة و لا اعتراف حقيقي، غير ورق مختوم على المكاتب الفرنسية أو اللهم أحلام حق، قابلة للقراءة في صدور رجال هذه الجمهورية المحاطة بدول باتت قائمة و مملكة قديمة ترى أرض الجمهورية امتدادا لها إلى النهر جنوبا!!
حين ولدت الجمهورية الإسلامية الموريتانية رسميا في الثامن والعشرين من نوفمبر تشرين الثاني للعام 1960 كان لابد لهذه الولادة من مبرر حقيقي ومتين بين الأمم، مبرر هو الكينونة الحاملة لهويتها الوجودية و حوزتها الترابية، الكينونة الحاضنة لسيادتها التي يجب أن تمتد أنابيب صيتها من عاصمتها الرملية نواكشوط إلى مقعد في نيويورك غربا حيث الأمم المتحدة، لحجز الرقم التسلسلي على الخريطة المعترف بها دوليا ومقعد آخر شرقا حيث جامعة الدول العربية ولن يكون ذلك سهلا إذ لا بد من أن يتجاوز هذا المبرر الصعاب الجسيمة في جو عالمي تحكمه المصالح أولا و يسكنه حذر جيو استراتيجي داكن.
حتى نكسة العرب عام 1967 لم يكن لموريتانيا معجم حركي ديبلوماسي يجسد تطلعاتها الواقعية ولا نظرية ذاتية بالمعنى الإستراتيجي، هذا يعني بالمعنى العلمي أن ديبلوماسية موريتانيا كانت دبلوماسية عامة ذات توجه مبني على الحُظوة الفرانكوفونية من جهة و الإنتماء الإسلامي من جهة أخرى والمجال العربي العميق من جهة ثالثة..لذا يمكن القول أنها كانت ديبلوماسية تكتيكية تتعرج وفقا للأحداث وليس لصدّ هذه الأحداث أو الاستفادة منها.
تتالت الأحداث الدولية التي أكدت مع تراكمها للرئيس المختار أن الديبلوماسية الوطنية بلا ميزان يضبط خريطة توجُّهاتها و أن وعاء الفرانكوفونية لن يسع أي فعل مستقل ولن يستوعب من تلقاء نفسه أي موقف كبير نابع من المصلحة الوطنية الصرفة كما لم تعد هناك حاجة ماسة لهذا الوعاء بعد عضوية موريتاتيا الكاملة في الأمم المتحدة.
المهمة و التكليف
في ظل هذه الحاجة المستجدة دبلوماسيا وهي الخروج من جلباب الفرانكوفونية المواقفية وخلق لا بد منه للموقف الوطني إفريقيا وعربيا وإسلاميا و دوليا في ظل هذه الحاجة الملحة كُلف السيد حمدي ولد مكناس بحقيبة الخارجية و من المهم هنا أن نعلم أن تكليف الوزير حمدي لم يكن تكليفا عاديا إذ لم يكلف لممارسة الفعل الدبلوماسي كماهو حال سائر وزراء الخارجية فحسب إنما جاء التكليف لخلق الدبلوماسية الموريتانية كنظرية استراتيجية أولا ولتأطير الكادر البشري لممارسة الفعل الدبلوماسي ثم ترتيب الملفات وفقا لرؤية الإستراتيجية وهي أول خطوة عملية للممارسة بعد خلق النظرية.
سيكون من الضروري في هذا المقام التوقف ولو قليلا عند محطة مهمة من تكوين السيد حمدي ولد مكناس وهي مرحلة تكوينه في جامعة السوربون، هذه الجامعة العريقة ليست قناة علمية لفرز خبرات علمية يحتاجها سوق العمل في فرنسا بل انفردت بتجربتها الكمية كونها مسرحا أكاديميا لصناعة الفكر الإنساني و تبريز مسألة العلوم الإنسانية وهذا ما يجعل الكمَّ الغزير والدرس البديع في مناهجها المختلفة يطغى على مسألة الكيف! يعني هذا بكل المعاني أن جامعة السربون لم تكن تفرز موظفين بل كانت تُعد وتخرج مفكرين وعلماء!
لم يكن حمدي ولد مكناس موظفا بالمعنى الأدائي حين كلف بخلق دبلوماسية موريتانيا عام 68 لقد كان مُفكرا سياسيا وقارئا جيدا لحركة التاريخ وأستاذا في تورية الآداب، هكذا يتخرج في جامعة السربون المختصون في العلاقات الدولية.
وقد رزق ولد مكناس إلى جانب فكره وأستذته هذه، غيرة وطنية بدت محركا جليا لمواقف موريتانيا وتحركها الخارجي وقيمة نوعية ستسعف موريتاتيا في الأعوم التى تلت تعيينه وزيرا للخارجية.
المِحك الأول
كانت العلاقات الموريتانية المغربية علاقات صفرية نظرا للمطالبات المغربية وما لبثت أن أصبحت العلاقة بركة راكدة من التوجس و المزايدات التاريخية..
حفَّت أطراف هذه البركة مناورات مواقفية داخلية في البلدين وتوجيهات دولية متضاربة…
ففي الوقت الذي أصبح الحسن الثاني مقتنعا تماما باستقلال موريتانيا وحقيقة سيادتها، بقيت قناعته هذه طي الكتمان نظرا لمزاعم حزب الإستقلال المغربي الذي كان قادته يظهرون تحفظا عنيفا حول موريتانيا وقد أعرب الملك للجنرال ديغول عن نيته الإعتراف باستقلال موريتانيا مضيفا أن المسألة تحتاج بعض الوقت وترتيبات داخلية، الأمر الذي جعل الوزير حمدي ولد مكناس في مابعد يرفض أي وساطة سرية بين البلدين متمسكا بالمبدأ الأول من المبادئ الويلسونية الأربعة عشر وهو مبدأ ( الدبلوماسية العلنية)
كان ذلك أول موقف ذاتي للدبلوماسية الموريتانية وإبرازا مدروسا لميلاد سيادة الموقف، رغم ما حمل على الرماح من تعطيل لوساطة الجنرال ديغول.
في يوم 21 أغسطس/ آب عام 69 اهتز العالم الإسلامي للحريق الذي شب في المسجد الأقصى والذي التهمت النيران خلاله منبر صلاح الدين الأيوبي و محراب المسجد ..
في اليوم الموالي للحريق نشطت الدبلوماسية الموريتانية نشاطا لم تألفه حيث قاد الوزير حمدي ولد مكناس مبادرة موريتانيا الرامية إلى جمع الدول الإسلامية حول طاولة واحدة لأخذ موقف موحد وحاسم من الاعتداء المباشر على الأقصى ثاني القبلتين.
بدأ تحرك ولد مكناس أولا بجمع لفيف من سفراء الدول الإسلامية للتنسيق مع حكوماتهم ولحسن قراءته للمناخ السائد، أن اختار الرجل التركيز على الدول الإسلامية غير العربية في عملية التنسيق مما وضع الدول العربية في حرج كبير إذا هي لم تبادر لدعم مبادرته غير أن تحركه الأعظم على الإطلاق كان إقناعه للسفراء أن المبادرة ستنجح فقط حين يتمخض عنها لقاء رفيع المستوى بين القادة و أن الإجتماع الإسلامي يجب أن يكون في إفريقيا البعيدة من الأقصى للفت الانتباه العالمي.
وطلب من السفير السنغالي أن تضع حكومته سفير المغرب لديها في إطار هذه الأحداث و منحه تفاصيل المبادرة الإسلامية.
تبنت المملكة المغربية المبادرة كاملة و تقدمت إلى جميع الدول الإسلامية بدعوة لحضور المؤتمر العاجل حيث قرر الملك تنظيمه في الرباط !
وجاءت اللحظة التي اتصل فيها الملك الحسن الثاني بالرئيس المختار لدعوته للمؤتمر غير أن الأخير رفض الحضور بدعوة شفهية و أكد على ضرورة تلقيه دعوة خطية من الملك كتلك التي ستحظى بها جميع البلدان المشاركة، وافق الملك احتراما لموريتانيا وحرصا على إنجاح المؤتمر و نزلت طائرة الوفد الموريتاني برئاسة المختار لأول مرة في الرباط و دخلت بذلك العلاقات بين المغرب وموريتانيا مرحلة التعاون الطبيعي بين بلدين شقيقين مستقلين.
بعد نجاح ولد مكناس الإعجازي في خلق موقف إسلامي أثمر إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي بدأ الاستعداد والعمل على خلق حلف عربي لدعم انضمام موريتانيا للجامعة العربية، وهي المساعي التي تكللت بالنجاح في 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 1973.
يقف التاريخ في صف حقبة موريتانيا الأولى خصوصا على المستوى الدبلوماسي الذي قاده ولد مكناس بعزم وطني ذاتي ودون استدراج كبير من الخارج ولا فسحة من الصدفة .. قاد دفته نحو ترجمة الفعل السيادي المتعاون ولعل تلك أبرز نقاط قوة المرحلة المذكورة و أشمل أفعالها.
رغم تغيُّر النظام العالمي أكثر من مرة خلال العقود الأربعة الماضية لم تخضع نظرية الديبلوماسية الموريتانية لأي مراجعة مباشرة عميقة بعد ولد مكناس، بيد أن السنوات التي أعقبت رئاسة ولد الشيخ عبدالله شهدت تحولا لافتا في شأن التعاون على المستوى الإقليمي و القاري تحولا جنت منه موريتانيا مكاسب دعمت مسلك صيتها في الخارج ولعل أولها انعقاد قمة عربية في نواكشوط تحت خيمة، الحدث الذي نمّ عن إصرار كبير على التفاعل مع العمق العربي.
وكذا مكسب عربي آخر وهو حضور المرأة الموريتانية متقدمة على نظيرتها العربية بتولي السيدة الناها منت منت حمدي ولد مكناس حقيبة الخارجية كأول امرأة عربية في المنصب.
لقد كانت مبادئ ويلسون الأربعة عشر في الأخير مبادرة شخصية نبعها السيادة، تماما كما كانت مبادرة ولد مكناس حول الأقصى وكم مرة أوقفت المبادرات في توقيتها المثالي جيوشا متناحرة وفضت اشتباك الأراضي المتداخلة و حفظت كرامة الإنسان..
فالإعجاز دائما في الديبلوماسية، أن تبادر بملء السيادة !
محمد الشيخ ولد باب أحمد