ضياع الطفولة/ عثمان جدو

اثنين, 01/15/2018 - 19:50

ذات يوم حدثني صديق صدوق؛ قال: كنت أقود سيارتي على أحد شوارع العاصمة انوكشوط؛ حتى أوقفني رجل يجلس خلف مقود سيارة فاخرة (V8) وقال بكل هدوء: يابني أريدك أن توصل هذه الفتاة إلى وجهتها وهذه ألفي أوقية أجرة ذلك، وفتح باب المقاعد الخلفية ونزلت تلك الفتاة الصغيرة جدا والتي لم يراودن أدنى شك أنها بنت الرجل، ركبت معي في السيارة في المقاعد الخلفية تحديدا، سلكت بها طريق المقاومة بعد أن سألتها عن هذا الخيار خوفا من أن تكون من الذين يخافون تلك الطرق التي لا توجد عليها زحمة سيارات، وكانت وجهتها مقاطعة توجنين، بعد دقائق من السير ورد على هاتفها اتصال وبدأت في الكلام، لم أنتبه كثيرا لكلامها احتراما لخصوصية ذلك، لكن كلمات مثيرة للانتباه اقتحمت سمعي ودفعتني إلى ضرب المرآة أمامي كي أتقابل مع الوجه الذي يصدر من فيه هذا الكلام؛ ذلك الكلام الذي كانت تفاصيله، لوم وشتم، لزميلات في المدرسة تخلفوا عن صديقتهن هذه التي حكت لهن بكل تفاصيل عن رحلتها قبل قليل مع العجوز الذي كان يوصلهن من المدرسة احيانا إلى مكان قريب من مساكنهن، وبينت لزميلتها التي كانت تتحدث معها عبر الهاتف أن العجوز الذي كان يصر دائما على إظهار رغبته في مرافقة إحداهن على انفراد إلى إحدى الشقق المفروشة رغم تمنعهن هو الذي ذهبت معه وأعطاها مقابل ذلك مبلغ خمسين ألف أوقية- العملة القديمة طبعا- وبعض الفواكه والمشروبات تحملها الآن، يقول السائق بعد هذا الكلام المفاجئ والمستفز الذي سمعته من هذه الفتاة الصغيرة توقفت قليلا وطلبت منها الركوب بجانبي وإعادة القصة كاملة علي حتى أكون كالشاهد الحاضر تماما.

أعادت الفتاة القصة كاملة بثقة تامة وتماسك في شخصية الحاكي؛ رغم ماحملته القصة من تفاصيل خادشة بل ممزقة للحياء..!؛

يقول السائق تولد بداخلي إصرار على مقابلة أم هذه الفتاة ولو بعد حين، أوصلتها إلى المنزل وتأكدت من دخولها تماما يقول الرجل؛ وفي اليوم الموالي حضرت باكرا وركنت السيارة مع طول الشارع وبقيت منتظرا أراقب المنزل لعلمي أن الفتاة توصلها أمها إلى مدرستها الموجودة في مجمع المدارس في قلب العاصمة، وهي التي أخبرتني بذلك قبل نزولها من السيارة، خرجت الأم وبعدها البنت التي كانت تعد إحكام سروال تحت ملحفتها على جسدها الصغير.. أوصلت الأم ابنتها إلى المدرسة وأدارت سيارتها فتبعتها وعند أحد ملتقيات الطرق القريبة؛ اقتربت بسيارتي منها وقلت لها أن لي حاجة في التحدث إليها؛ تجاوزت الملتقى الطرقي ووقفت بجانب الطريق وهي تتحدث في الهاتف اقتربت منها قليلا فإذا بها تقول للمتحدث إليها: (لا تأت إلى تلك الدار التي تعرف فإن أخي و أسرته قد عادوا إليها ولكن إذهب إلى منزل *فلانة* ونلتقي هناك ولا تنس إحضار اللحم (أطاجين) حينها يقول السائق الباحث عن موطئ قدم للنصح والتنبيه أدركت أنه لا فائدة *فهذه البنت على خطى والدتها* وانطلقت بسيارتي مسرعا وهي تنادي خلفي وتنبهني أني لم أحك لها شيئا..!

 

هذا مثال يعطي تفاصيل عن حالة من حالات الضياع التي تعاني منها فتيات المدارس وإليكم مثال آخر حدث قبل يومين؛

 

في يوم الخميس الموافق 11.01.2018 -ضحى- حدثت القصة التالية: قرب الملعب الأولمبي كنت شاهدا حينما كان أحدهم في سيارته ينتظر شخصا ما ليحضر له وثائق وعلى الجانب الآخر من الطريق، كانت هناك فتاة صغيرة جدا * أكاد أجزم أنها لم تتجاوز بعد ثنتي عشرة سنة* مستندة على سيارة متوقفة ليس بها أحد، وغير بعيد عنها تجلس أخرى على الرصيف وتتحدث في الهاتف؛ تزيد على لبسها الساتر بعباءة ...

تسلم الرجل الوثائق التي كان ينتظرها وبدأ بلف سيارته متجها إلى قلب العاصمة؛ أشارت إليه إحدى الفتاتين و طلبت منه أن يقلهم إلى الأمام (أطفگن معاك الگدام)، وبعد صعودهما بدأت صاحبة العباءة فورا في طلب عشرة آلاف أوقية وعللت ذلك بأنها مدينة لأخرى بها؛ وبدأت الأخرى بمحاولة لفت الانتباه إليها، تفاجأ الرجل-الذي لم يكن وسيما بالمرة- من سرعة العرض والتلميح من فتيات صغيرات يحملن حقائب مدرسية بها دفاترهن، فبدأ بتوجيه الأسئلة المختلفة إلى الفتاتين وتعمد شحنها بعبارات كان يظنها أكبر من سنهما لكنه تفاجأ حين أظهرتا له تجربتهما ومراسهما واستعدادهما للتمكين من جسديهما الصغيرين إذا بقيت عذريتهما على حالها، و غير ذلك من جسديهما لا يهم، وأكدتا له أنهما ألفتا ذلك خاصة مع رجال تقدموا في السن من أصحاب الحظوة؛ وتضيف الصغرى أولئك يعطون أكثر وبأسهم قليل وعادة ما أجد منهم أربعة أو خمسة في اليوم الواحد وأقلهم عطاء لا ينزل عن حاجز عشرة آلاف أوقية!! 

تفاجأ الرجل بل صدم من بعض التفاصيل، ولأنه كان لحظتها صائم آثر التخلص من الفتيات والتهرب بإبداء عدم استعداده لمواصلة هذا الطريق وأراد قطع الحديث وإبداله بالحديث عن قلة ما باليد والرغبة في التوجه إلى مصلح السيارات؛ إذ السيارة بها عطب لا ينبغي التأخر في إصلاحه وكلفة ذلك لما يتحصل عليها بعد.. حينها طلبتا منه عدم الابتعاد بهما كثيرا عن المنطقة التي كانتا بها فبعض الزبائن هناك تردف إحداهن بالقول!؛

 

هذا غيض من فيض وسيئات ظاهرة تنبئ بوجود أخرى خفية، وهي منابع خبيثة متجاهلة من طرف المجتمع أو على الأقل متجاهلة من أصحاب الأحلام والنهى و التأثير والمعالجة.

 

إن هذا النوع من الانفلات الأخلاقي الذي أصبح ظاهرة منتشرة في فتيات هن تلميذات في عمر الزهور؛ ليدل على خلل بنيوي كبير في مجتمعنا الذي طالما راهن على أنه المجتمع المحافظ المحصن بالقيم..

و المشكلة الكبيرة هي أننا نتجاهل تأثير هذه القنابل الموقوتة و البؤر المتنامية في الخفاء، ولحظة الانفجار و الظهور على السطح، قد لا يكون الحل وقتها ممكن وقد لا تكون آلية الكبح فعالة، وحينها يردد الكل في استغراب تام: "بلغ السيل الزبى وتجاوز الربى"

 

لا شك أن هناك عوامل عديدة ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في وجود وتنامي هذه المظاهر السيئة الهدامة ومنها طبعا التفكك الأسري والفقر وعدم وجود الرقيب الناضج وغياب المسؤولية الأخلاقية عن بعض الأمهات؛ خاصة المتجاهلات لحساسية هذه المسلكيات وخطورتها على مستقبل بناتهن بفعل استعذابهن للسلوك المشين الذي تنتقل عدواه بسرعة البرق إلى صغيراتهن مع وجود عناصر للاستقطاب ووسائل للتثبيت، هذا بالإضافة إلى من يشجعون على تفشي وتنامي هذه الظاهرة من مرضى النفوس من الرجال؛ بأعطياتهم التي غالبا ما يكون تحصيلها قد تم من أموال الشعب العامة أو الخاصة في غياب تام للوازع الديني والحافز الأخلاقي؛ فلو أنصف هؤلاء أنفسهم قبل مجتمعهم لأدركوا أن لهم بنات وأخوات وبنات إخوة هن في نفس السن وقد يلحق بهن نفس الأذى ويصلن إلى ذات المصير إن هن سلكن نفس الطريق أو تعرضن لنفس الإغواء أو التشجيع.

 

بعد هذا كله من دواعي القلق و وجوب استجاشة العواطف النبيلة من أجل إيقاظ المشاعر الحميدة في هذا المجتمع؛ تطل علينا بين الفينة والأخرى؛ داعيات (حقوق) يتجرأن كثيرا على الدين و لا يفوتن فرصة لمحاولة إلصاق الشوائب بأهله مدعيات بذلك الدفاع عن الحقوق وهن في الحقيقة مروجات أوهام، مستمرئات للمال والسلوك الحرام، ظاهرات بنشاطهن القابضات عنه بشبهة ورشوة، تتزين إحداهن باختيار الدفاع عن ضعيف يعيل أسر وأخرى تتمظهر بمظهر الصادق الحاذق المحظوظ باستقامة ووفرة الكفالة، وهي من ذلك كله موضع الحرمان وحظ السفالة.